استطاعت المؤسسة العسكرية المصرية أن ترسم لنفسها صورة مشرقة عبر تاريخها الطويل جلبت لها الاحترام والتقدير في نفوس الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب خاصة بعد حرب أكتوبر والانتصار على العدو الصهيوني وتحرير سيناء وعرف الشعب قواته المسلحة أنها مؤسسة وطنية تسعى لحفظ أمن وسلامة البلاد وتبذل في سبيل ذلك كل غال ونفيس.. تعرف دورها جيداً ولا تتخلف عنه.
ساهم في رسم هذه الصورة الإيجابية وصناعة هذه المكانة في النفوس عدد من القادة العسكريين العظام أمثال الجمسي والشاذلي وأحمد إسماعيل وأحمد بدوي وأبو غزالة وغيرهم.. من التحق بهم بالحياة المدنية والسياسية ومن لم يلتحق.
في فترة ما بعد أكتوبر ١٩٧٣ قامت القوات المسلحة بالمشاركة في تشييد بعض المشروعات الكبرى مثل بعض المطارات والمواني والطرق والكباري، وغيرها، فزاد ذلك من إجلال المؤسسة ورجالها ولم يعتبر الشعب ذلك حياداً عن دور المؤسسة وتدخلا في الحياة المدنية.
حتى جاءت فترة حكم مبارك وخصوصا في نصفها الأخير وبدأ غمس رجل الجيش في الحياة المدنية والسياسية بل وحتى الاقتصادية فصرنا نرى المحافظين والوزراء ورؤساء المدن والأحياء ورؤساء الشركات بالقطاع العام ورؤساء الأحزاب من أصحاب البزات العسكرية سابقا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل اتجهت المؤسسة ذاتها وبمختلف مقوماتها للقيام بأدوار غريبة عليها تكاد تكون في ذلك الوحيدة على مستوى العالم فانشغلت بإنتاج المواد الغذائية وتعبئة المياه وإنتاج الأدوات المنزلية، إلخ.. وصارت هذه الأمور من مهام قواتنا المسلحة!!
ثم جاءت ثورة يناير وهتفت جموع الشعب في الميدان “الجيش والشعب إيد واحدة” على ما اعتبره الشعب انحيازا من المؤسسة العسكرية إلى ثورته ضد المخلوع ونظامه.
ولأن الصورة الإيجابية للجيش لا تزال قائمة قبلت جموع الشعب “إلا قليلا” بانتقال السلطة من يد المخلوع إلى بعض رجالاته ممن ينتسبون إلى المؤسسة العسكرية “وفوض المجلس العسكري في إدارة شؤون البلاد”.
لتبدأ مرحلة التعامل الخشن بين الجيش والشعب فيتغير الشعار إلى “يسقط يسقط حكم العسكر” خلال أشهر معدودة شهدت عددا من الأحداث المأساوية التي لن تمحى من ذاكرة الشعب “محمد محمود” و”مجلس الوزراء” و”مسرح البالون” و”ميدان العباسية” و”ماسبيرو” و”بورسعيد” وسحل وتعرية الفتيات في قلب ميدان الثورة. واستبدلت الصورة في أذهان الناس من ذلك الجندي الذي يحمل الورود وزجاجات المياه ويعين المرضى وكبار السن إلى ذلك الجندي الذي يطلق الرصاص ويضرب بالهراوات، ومن تلك المدرعات التي تعتليها الجماهير حاملة الأعلام إلى تلك المدرعات التي تدهس مواطنين أبرياء أغلبهم كانت لا تزال لديه بقايا من هذه الصورة الذهنية الإيجابية.
مع تولي أول رئيس مدني السلطة في البلاد عبر انتخابات شهد لها العالم قدمت خلالها المؤسسة العسكرية جهودا مشكورة ثم قيام الرئيس بتغيير بعض القيادات العليا داخل المؤسسة العسكرية والتي ارتبطت بالمخلوع مبارك ونظامه ومع اعتقاد الكثيرين بخروج المؤسسة من المشهد السياسي وفي ظل تكرار الرئيس الإشادة بالمؤسسة ورجالها بدأت الصورة مرة أخرى في التحسن وزلزل الهتاف “الجيش والشعب إيد واحدة” ستاد القاهرة في احتفالات أكتوبر ٢٠١٢.
حتى استيقظ الشعب على أشد الصدمات قوة مع انقلاب المؤسسة على إرادته بعد أجواء من التوتر السياسي باتت المؤسسة متهمة بالضلوع في صناعته.
ومع إعلان الثالث من يوليو وإلغاء المسار الديمقراطي دخلت المؤسسة منعطفا شديد الخطورة تمثل في المواجهة الدامية مع مؤيدي شرعية الرئيس المنتخب وفي القلب منهم التيار الإسلامي إضافة إلى كل المدافعين عن المسار الديمقراطى بعيدا عن شرعية مرسي.
وبدأت سلسلة من المجازر تندى لها البشرية وسقط فيها آلاف الشهداء “رمسيس الأولى والثانية، الحرس الجمهوري، أحداث المنصة، فض رابعة والنهضة” إلخ، وما صحب تلك الفترة من موجة مجنونة للتجرؤ على بعض المظاهر الإسلامية والثوابت في وسائل الإعلام والزج بعشرات الآلاف إلى المعتقلات ومحاكمات تفتقد للحد الأدنى من العذالة وأحكام بالجملة في قضايا بني أغلبها على محاضر تحريات كتبها ضباط جهاز مباحث أمن الدولة وهم جالسون على مكاتبهم.
حتى في تلك المساجلة القضائية يتم الزج بالمؤسسة العسكرية في أتونها فتصدى القضاء العسكري لإصدار هذه الأحكام وحولت العديد من القضايا إليه حتى بات مثول أي مواطن حتى الأطفال أمام محكمة عسكرية أمرا اعتياديا.
الأعجب في الأمر أن مسلسل القمع والتنكيل تخطى مؤيدي الشرعية إلى شركاء الثلاثين من يونيو فدخل العديد منهم إلى السجون وحكم عليهم بأحكام متفاوتة.
دخلت المؤسسة العسكرية صراعا آخر من نوع خاص فرجال الأعمال الذين رأوا في رئاسة مرسي خطرا على مصالحهم الاقتصادية فمولوا وحشدوا لانقلاب الثلاثين من يونيو إذا بهم أمام منافس كبير فيما يعتبرونه ملعبهم الخاص وهو الهيئة الهندسية للقوات المسلحة التي باتت تحتكر المشروعات الكبرى حتى مع حاجة الدولة إلى إسهام القطاع الخاص فمن خلال الهيئة!!
فوق كل ما سبق كان مسلسل بيع الوهم للمواطنين حاضرا بقوة ودائما يتم الزج باسم المؤسسة العسكرية في كل حلقاته.. وفي ظل فجاجة المواقف وتكرارها لا يمكن اعتبار الأمر مجرد خطأ فمن علاج مرض الالتهاب الكبدي الوبائي بجهاز “كفتة” عبد العاطي المنتج بمعرفة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ومرورا بمشروع المليون وحدة سكنية واستصلاح مليون فدان والعاصمة الجديدة وحقول غاز البحر المتوسط وسد النهضة الذى تحول من كارثة محدقة في عهد مرسي إلى إنجاز تاريخي في عهد السيسي ومليارات ومشروعات المؤتمر الاقتصادي وانتهاءا بمشروع قناة السويس الجديدة.. ولم يجن المواطن غير ارتفاع الأسعار وضعفا في الخدمات بل وصل الأمر إلى توقف بعضها تماما.. تحويل صورة المؤسسة إي نموذج لضرب المثل في الخداع في اللعب بأحلام البسطاء!!
وأخيرا تبقى الأسئلة حائرة؛ فلمصلحة من يتم الزج بالمؤسسة العسكرية ومن الذي يدفع بها في كل ذلك؟؟
ألا يوجد من بين أبناء المؤسسة من يدرك هذه المخاطر ويرى هذه الصورة البائسة فيتحرك على أي نحو لإنقاذ ما تبقى؟؟
هل لا تزال الفرصة قائمة لاستدراك الأمر وتعديل المسار؟؟
وهل تم القضاء على الجيوش العربية الكبرى عبر سيناريوهات متعددة كما في العراق وسوريا.. وهذا هو السيناريو المعد لقواتنا المسلحة؟!