“أكتوبر” كان انتصارًا للأمة المصرية، والعربية، شارك فيه الجميع، عسكريين ومدنيين، ومن السخف أن يتحول إلى وسيلة لابتزاز المواطنين، بتصويره على أنه منّة، أو منحة من الجيش للشعب.
هو ملحمة من ملاحم نضال الشعوب، التي هي أم الجيوش، وحاضنتها، ففي البدء كانت الشعوب، فتكونت وولدت من رحمها الجيوش، وليس العكس. وبالتالي، من الجنون أن يعتبر أحد أن أفراح الشعوب هبة الجيوش، وعطاياها، كما صوّروا المسألة ذات يوم، قبل أكثر من عامين ونصف العام، حين نقل التلفزيون المصري مؤتمراً صحافيًا للجنرالات يمنون على الشعب ويتيهون تفضلا بالإعلان عن تفاصيل جهاز القوات المسلحة لعلاج أمراض “الإيدز” وفيروس “سي”، ويأتون بمن يرتدي زي اللواء، ليخطب قائلا: “ثقوا أننا هزمنا الإيدز، ولم ولن نستورد في يوم من الأيام علاجا للإيدز. باخد الإيدز من المريض وأغذي المريض بيه وأديله صباع كفتة يتغذى عليه، باخد المرض وأديله غذا وده قمة الإعجاز العلمي”.
كنت أتصور أنهم سينتهزون فرصة احتفالات أكتوبر هذا العام، لكي يعتذروا للشعب عن “كذبة الهيئة الهندسية” التي أطلقوها في وجه الشعب، لابتزازه ومقايضته، لكي يقبل بانتزاع السلطة وإعادتها إلى العسكريين، ويخرج الجنرال “المصنوع”، عبد العاطي، باعتذار عن خداع الجماهير المطحونة، غير أنهم واصلوا الابتزاز والمقايضة، إذ قال عبد الفتاح السيسي، في احتفالات نصر أكتوبر، إنه “لن يستطيع أحد الرجوع بالشعب إلى الوراء”.
الصياغة بهذه الطريقة تشير إلى أن “الشعب” في نظر جنرال الحكم مثل “مركبة”، أو مجموعة من “المركبات”، يمتطيها الجنرال، ويندفع بها إلى الأمام، ممتلئا بالثقة في أن أحداً لن يستطيع قيادتها، غيره، ويرجع بها إلى الخلف.
ثم يمضي في خطابه، على خطى مذيعة الاتجار بالمأساة السورية، ريهام سعيد، حين يقول للجماهير إن وقوف الشعب بجانب الجيش، وحده، هو ما يضمن له الحماية، وتجنب مصير الدول المجاورة.
لا يختلف هذا القول عما ردّدته المذيعة الواقفة فوق سيارة محملة بالبضائع، وسط النازحين السوريين، تمن عليهم بالمساعدات، وتعنّفهم وتعاقبهم وتلقنهم درساً في العواقب الوخيمة لكل من يثور على نظام حكم، حتى وإن كان مستبداً، حيث يقايض الجنرال شعبه: في الوقوف مع حكم الجنرالات السلامة، وفي معارضتهم الندامة.
لم تخل جملة واحدة في خطاب السيسي من كلمة “الجيش” كصاحب أفضال على الشعب، وولي لنعمته، مخوّفاً الجميع من التفكير في التغيير والمعارضة، وممعناً في إثارة الفزع من البرلمان القادم، الخطير للغاية، بنص كلامه، إن فكر أحد في الخروج عن الأدوار التي رسمها الجنرالات لما يفترض أنها السلطة التشريعية والرقابية، حيث يوجه السيسي رسالة واضحة للجميع بأن البرلمان القادم تحت الرقابة، وقيد الاختبار، ولا صلاحية له في تشكيل الحكومة، حين يعلن أن انتخاب برلمان جديد لا يعني تغيير الحكومة التي صنعها بأعينه.
لم يذكر عبد الفتاح السيسي، في خطابه، أحداً أكثر من ذكره المشير طنطاوي، صاحب الرصيد الأوفر في كراهية ثورة يناير، وشبابها، في سياق سرد أفضال الجيش وإحساناته على الشعب، وتضحية الجنود والعساكر الغلابة، وليس الضباط والجنرالات، بنصف رواتبهم.
استدعاء اسم طنطاوي هنا، وهو الذي لم يكتب التاريخ أنه كان من قادة أكتوبر الكبار الذين صنعوا معركة الانتصار، لا معنى له سوى توجيه رسالة أخرى بأن الجيش هزم ثورة يناير، وها هو يذكر بكل فخر واستعلاء الرجل، الذي ارتبط اسمه بقتل الثوار وسحل المتظاهرات على أسفلت الشوارع، فإما أن تكونوا مع الجيش ضد الثورة، أو تنتظروا مصيراً بائساً، أيها المصريون.