استشعر المثقّف الإيرانيّ مبكِّرًا خطورة المعضلة الثّقافيّة في مشروعه النّهضويّ، ومع خُفوتِ بريق الشِّعارات الثّوريّة؛ تعمَّقت الحاجة إلى إصلاح الذّات، واكتشف أبناء الثّورة الإسلاميّة وتلاميذها، أنّ العقبة الحقيقيّة أمامهم، ليست العدوّ الخارجيّ كما يروِّج لذلك الخطابُ الرّسميّ؛ بقدر ما هي تلك الأفكار الخاطئة التي سيطرت على العقل الإيرانيّ لقرونٍ طويلة، وكانت وراء فشل كلّ ثورات الشَّعب الإيرانيّ في القرنين الأخيرين، إذ كانت الأصول الثقافيّة المترسِّخة في النّفوس؛ تُنتج دائمًا عقلًا جامدًا ومعزُولا ومُستعليّاً. وكثيرًا ما كان ذلك العقل يحاول إضفاء الشرعيّة على بنيةٍ استبداديَّة عنصرية، مع أنّها قائمة على حُطام أنظمةٍ استبداديّةٍ وعنصرية سابقة.
يمكن اعتبار تجربة كل من المفكر علي شريعتي (1933-1977) مساهمة أساسية في نقد ومراجعة الذات، وهو الذي دعا الإيرانيّين إلى التّحرّر من “الإسلام الصفويّ” المُفَرِّق والمُنتَقِم، والعودة إلى “الإسلام النّبويّ” الجامع والرّحيم؛ وأيضاً، الباحث ناصر بوربيرار (وُلد سنة 1944) الذي دعا العقل الإيرانيّ إلى الاستيقاظ من “وهم الحضارة الفارسية المُهَيْمِنة“.
استطاع الرّجلان، شريعتي وبوربيرار، أن يضعا إصبعيهما على داء العقل الإيرانيّ المعاصر بدعوتهما إلى تجاوز معطيات مذهبيّة وتاريخيّة طارئة، صارت فيما بعد مسلّماتٍ وثوابتَ، لايزال المجتمع الإيرانيّ يدفع ثمنها باهظًا.
هدمت ثورة 1979 الاستبداد الملكيّ الذي عمّر بلاد فارس لقرونٍ طويلة؛ لكنّها لم تستطع أن تقترب من العنصرية الثقافيّة المهيمِنة على الذِّهنيّة الإيرانيّة، وظلّ مثقَّفو الثّورة وكتّابها يحومون حول تلك القيود التي تحوَّلت -بعد عقود-إلى مُوَجِّهاتٍ لمواقف إيران وسياستها تجاه جيرانها.
فعلى الرّغم من كلِّ شعارات الثّورة وأدبيّاتِها، لم تستطع الممارسة الإيرانيّة أن تخرج من ضيق المذهبيّة والعرقيّة؛ تلك “الخلطة الصفوية” التي كادت أن تُصبح جزءًا من الشخصيّة الإيرانيّة، فتُطْبِق تمامًا على أنفاس التّنوّع والانفتاح اللَّذيْن طبعا هويّة بلاد فارس قرونًا طويلة.
وفي هذا الإطار يمكن تفسير فشل مبادرة “حوار الحضارات” التي انطلقت بفكرة الرّئيس الأسبق محمد خاتمي في الأمم المتّحدة، سنة 1997، إذ يرجع فشلها إلى عدة أسباب منها: إهمالها للتّقارب الإيرانيّ الداخليّ بين مكوِّنات الهُويّة الإيرانيّة، وللحوار الإيرانيّ مع الشّريك والجار العربيّ، وليس ذلك فحسب؛ بل أَهمَلت دور الفاعل العربي في الحضارة الإنسانيّة.
أكّد الباحث الإيراني محمد برقعي أنّ الاستعلاء الثقافي والنفسي الإيراني لم يكن فقط موَجَّها إلى الجار العربيّ؛ بل وكذلك إلى الأفغان والطاجيك والأوزبك والتّركمان؛ يقول برقعي: “مازلنا ننظر إلى هذه الشّعوب التي تُشاركنا اللّغة والثّقافة من فوق، وكأنّهم يتربّصون برموزنا الحضاريّة لسرقتها منّا”. ويضيف: “والسّبب أنّنا نرى أنفسنا في صفِّ الدُّول الغربيّة، لا مع الدّول المتخلّفة مثل باكستان والهند وبنغلاديش“.
الباحث الإيرانيّ صادق زيبا كلام، بدوره، يكشف عن تورط العقل الإيراني في العنصريّةُ، قائلا: “أعتقد أنّ الكثير من الإيرانيّين يكرهون العرب، ولا فرق بين المتديِّن وغير المتديِّن منهم في هذا الأمر“.
لا يُنكر زيبا كلام أنّ هناك علاقةً وثيقةً بين العنصريّة وتدنِّي المستوى الثّقافيّ؛ لكنّ هذه القاعدة، برأيه، لا تنطبق على المجتمع الإيرانيّ، لاستسلام كثير من المثقّفين -وغير المثقّفين-لمشاعر العنصريّة. يقول زيبا كلام: “الكثير من المثقّفين يبغضون العرب، وتجدون متديِّنين كثرًا ينفرون منهم؛ إلا أنّ هذه الظّاهرة هي أكثر انتشارًا بين المثقَّفين الإيرانيّين. وتنتشر هذه الظّاهرة بين المتديِّنين، على شاكلة لعن أهل السّنّة”. ويتّفق زيبا كلام مع برقعي في أنّ قضيّة كراهية الإيرانيّين لأهل السنّة، ليست سوى الوجه الآخر لكراهية العرب لهم.
وفي أثناء التّشريح التّاريخيّ كشف زيبا كلام عن أنّ جذور كراهيّة النُّخبة الإيرانيّة للعرب ترجع إلى أكثر من 1400 عام، عندما انهزم الفرس أمام العرب المسلمين في معركة القادسيّة.
وأشار إلى أنّ سياسات الملكيّة البهلويّة؛ قد عمّقت النّظرة الاستعلائيّة تجاه العرب. ورأى أنّ جميع المحاولات -التي بُذلت في المرحلَتيْن الملَكيّة والجمهوريّة-لتصفية اللّغة الفارسيّة من الكلمات والمصطلحات العربيّة؛ هي ترجمةٌ لمشاعرَ عنصريّة تجاه العرب.
ويؤمن زيبا كلام بأنّه لا مفرَّ من مواجهة فظاعات الذهنية الإيرانية وتشوُّهاتِها العميقة، والتي تسعى دائمًا إلى تجاهُل قُبحها بالإنكار والهروب إلى الأمام. ويرى أنّه لا سبيلَ للعلاج من تلك الآفات؛ إلا باجتثاث جذور الدّاء الكامنة في العقل الإيرانيّ، سواء كان متعلِّمًا مثقَّفًا أو لم يكُن.
أما الكاتبة الشابة ندا شهبازي فقد جادلت المتعصِّبين الذين اتّخذوا قضيّة تسمية “الخليج الفارسيّ” ذريعةً لتمرير كراهيتِهم للعرب؛ مذكرة إياهم أن جزءًا من الشَّعب الإيرانيّ هم عربٌ أيضًا، وأنّ غالبيّتهم تساكِن ذلك الخليج. تقول شهبازي: “استبعدُ أن يبذلوا كلّ هذا الجهد، لو كان اسمه مثلا الخليج الجنوبيّ“.
وذكّرت الكاتبة أيضا بأنّ التّداخُل والتّبادل، هو من طبيعة الثّقافة الإنسانيّة؛ وأنّ تأثير اللّغة العربيّة في نظيرتها الفارسيّة كبير. ودعت الإيرانيّين إلى ملاحظة أسمائهم العربيّة، ونصحتهم باستئصال مشاعر العنصريّة والكراهية من قلوبهم؛ على الأقلّ احترامًا للمواطنين الإيرانيّين العرب.
تمثِّل مراجعة بعض المثقَّفين الإيرانيّين للذّات، ونقدهم لما يعتبر مسلمات في ثقافتهم، خُطوةً إيجابية في اتجاه بناء علاقاتٍ مشتَركة ومتواصلة مع محيطهم، خاصة العربيّ، وقد تكون هذه الأفكار مقدِّمة لتحوُّلٍ ثقافيّ، يفتح المنطقة على مستقبلٍ أكثر تواصلًا واستقرارًا؛ يستشعر فيه الجميع احترام بعضهم البعض الآخر.