أظهرت بعض الأبحاث والدراسات مؤخرًا أن الحياة في المدن بشكل عام ترتبط بالاكتئاب والقلق، ولكن ما الذي يجعل حياة المدن مجهِدة لهذا الحد؟ وما الذي يمكن عمله لجعل تلك الحياة أفضل وأكثر استقرارًا؟
الزحام لا ينتهي في القاهرة
“الجلوس داخل هذا التاكسي المتهالك طوال اليوم يحطم عمودي الفقري، هذا الضجيج المتواصل في شوارع القاهرة يدمر الجهاز العصبي لسكانها”، هكذا يرى خالد الخميسي في كتابه “تاكسي” الذي صدر عام 2007 وحكى فيه عن لقاءات أجراها مع 58 سائق تاكسي في القاهرة التي تجمع أكثر من 80000 سائق تاكسي.
ويرى الخميسي أيضًا أن الزحام والاختناقات التي لا تنتهي في القاهرة تستنزف الطاقة الجسدية والنفسية لأهل المدينة، وأن الصراع من أجل لقمة العيش قد أنهك هذه الأجساد تمامًا.
هذه مجرد صورة كئيبة من صور الحياة في العاصمة المصريه، هل يمكن ان تكون مصر “أم الدنيا” كما يطلق عليها، هي أكثر الأماكن المسببة للاكتئاب على هذا الكوكب؟ ام ان الأمر يتوقف فقط على الطريقة التي يعيش بها الناس هناك؟
ليس من المفاجئ بالنسبة للجميع ان الحياة في المدن بشكل عام أكثر ارهاقًا وضغطًا من الحياة الريفيه، لكن ماير ليندنبرج –عالم الاعصاب- وفريقة من المعهد المركزي للصحة العقلية في مانهايم الالمانية يحاولون الوصول إلى الأسباب التي تجعل حياة المدن أكثر ضغطًا.
في عام 2011، قام هذا الفريق بنشر دراسة في دوريةNature العلمية أظهرت نتائجها أنه تم رصد نشاط زائد في منطقة من المخ تسمى اللوزة المخية(amygdala) ، بالنسبة لهؤلاء الذين يسكنون في المدن بدرجة تفوق سكان الريف، هذا النشاط في هذا الجزء من المخ هو المسئول عن الاضطرابات والقلق والاكتئاب.
مدينة شنغهاي التي يسكنها 23 مليون نسمة مع كثافة سكانية تصل إلى 119000 نسمة لكل ميل مربع
يستخدم الفريق الآن نفس التقنيات -التي تعتمد على إجراء مسح دماغي لمجموعة من الناس تحت مراحل مختلفة من الضغط- على نطاق أوسع لاستكمال الدراسة والحصول على نتائج أكثر تفصيلًا. يقول الدكتور ليندنبيرج: “الآن نعلم طبيعة الحياة في المدن بشكل عام، الآن علينا محاولة الوصول إلى الأسباب والتفاصيل، لذلك فنحن نستخدم نموذجًا جديدًا عن طريق البحث في المشاكل والأخطار الموجودة في المدن والتي تسبب هذا النوع من الضغط والاضطراب، والتي تتنوع بين الضجيج والتلوث وكذلك العوامل الاجتماعية”.
في الوقت الذي تركز فيه هذه الدراسات بشكل أساسي على المدن الأوروبية، يقول ليندنبيرج إن نتائج هذه المدن الأوروبية ستبدو أقل إثارة من تلك النتائج التي ربما تأتي من الصين أو البرازيل على سبيل المثال نظرًا للتطور الكبير والسريع الذي تشهده المدن الكبرى في هذه البلدان، والتي ما زالت في خضم عملية التحضر حتى الآن.
إذا تحدثنا عن شنغهاي على سبيل المثال، إذا تغاضينا عن التحدث عن إمكانية تعرض بعض السكان للموت نتيجة للعمل لفترات تزيد عن تحمل الإنسان الطبيعي، فإن لديهم من المشكلات الكافية التي تتعلق بالكثافة السكانية شديدة الارتفاع ومشكلات الإسكان والمرور وغيرها.
بالتأكيد أيضًا فإن العلاقة بين الكثافة السكانية والصحة هي أمر لا يمكن إغفاله. في بداية القرن العشرين، وضع المخططون ومسؤولو الصحة العامة تصورًا للكثافة السكانية المثالية التي تضمن صحة كل المقيمين وحددوها بمقدار 12 وحدة سكنية لكل فدان، هذا ما استطاعت ريبيكا مايلز -الباحثة في مجال التخطيط بجامعة فلوريدا- استخراجه من إحدى الوثائق التي تعود إلى بدايات القرن الماضي.
يمكننا أن نتجادل بشأن هذه الأرقام بكل تأكيد، لكن مايلز ترى أنه بالتأكيد هناك قيمة معينة تضمن لجميع السكان داخل المدن أن يعيشوا حياة جيدة صحيًا واجتماعيًا وذات خصوصية كافية.
ما أغفله المخططون آنذاك بالتأكيد هو الزيادة الهائلة لأعداد السيارات. في عام 1900 كان عدد السيارات في الولايات المتحدة 8,000 سيارة مسجلة فقط، في حين بلغ الرقم ذاته في عام 1950 إلى 40 مليون سيارة، واليوم ربما يصل تعداد هذه السيارات إلى نفس عدد السكان، لكن هل هناك ما يجعلنا نربط بين الازدحام في الطرق وزيادة عدد السيارات وبين زيادة الضغط على السكان؟
مدينة شنغهاي التي يسكنها 23 مليون نسمة مع كثافة سكانية تصل إلى 119000 نسمة لكل ميل مربع.
القاهرة تعد من أكثر مدن العالم إزعاجًا
أعدت مايلز دراسة عن العلاقة بين الحياة الحضرية والاكتئاب في مدينة ميامي والتي تقع في الترتيب السابع من حيث المدن التي يعاني سكانها من الضغط والاكتئاب وفق ترتيب مجلةTime ، أظهرت تلك الدراسة أن السكان المتركزين في المناطق التي تعاني ازدحامًا مروريًا كبيرًا في المدينة هم أكثر عرضة للاكتئاب، كما توصلت أيضًا أن المساحات الخضراء تقلل من التوتر والاكتئاب.
تقول مايلز “أعتقد أن أهمية تلك الدراسات التي أقوم بها والتي يقوم بها غيري من الباحثين هي محاولة تقليل تلك العوامل التي تزيد من اكتئاب السكان، يجب أن ندرك جميعًا أن الكثافة السكانية بالإضافة إلى الاختناقات المرورية الكثيفة تؤدي إلى الإضرار بالحالة النفسية للسكان بل والصحة الجسدية في بعض الأحيان”.
استخدمت الدراسة التي استهدفت مدينة ميامي حجم حركة المرور في حساب الضجيج الصادر عن هذه الحركة، وهو ما يعد مصدرًا أساسيًا للضوضاء في البيئات الحضرية.
دراسة حديثة أخرى أعدت حول مدينة ماسترخت الهولندية وجدت أن سكان المناطق التي تتعرض لحركة مرور أكبر أو تقع بالقرب من خطوط القطارات معرضون لتدهور الحالة النفسية والذهنية أكثر من أولئك الذين يسكنون مناطق تبعد عن هذه الخطوط.
السر وراء ارتباط الضجيج والصحة النفسية هو “نموذج الإجهاد العام”، أي أن الضوضاء تؤدي لزيادة نشاط الجهاز العصبي، وكذلك الهرمونات المسببة للتوتر، كما تؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم. كما أنها تسهم في اضطرابات النوم وتزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق.
القاهرة أيضًا هي واحدة من أكثر المدن إزعاجًا في العالم، دانييل بوب -أحد العلماء المتخصصين في الضوضاء في الشركةAtkins البريطانية- يرى أن طبيعة شوارع القاهرة الضيقة ذات المباني المرتفعة تخلق بيئة مناسبة جدا لحدوث الضجيج.
يرى أيضًا أن العلاقة بين الضجيج ومستوى الاكتئاب والتوتر هي أمر نسبي، فما يقلق شخص قد لا يقلق الأخرين كلهم. “ربما يذهب أحدهم إلى قرية ريفية ويجد أن أصوات الحيوانات هي أمر شديد الإزعاج بالنسبة له، وربما عندما يأتي أحدهم إلى المدينة يجد أن أصوات السيارات في المساء مزعج جدًا”، هكذا يفسر بوب الأمر.
السيول أحد أكبر مشكلات مدينة ميامي الأميركية
لا يتعلق الأمر بالضوضاء والضجيج فحسب، بل إن الانبعاثات التي تنتجها هذه المركبات أثبتت الدراسات أيضًا علاقتها بالجهاز العصبي والتسبب في الشعور بالتوتر والقلق.
مدينة مومباي على سبيل المثال، أحد أكثر المدن من حيث الكثافة السكانية في العالم، عند توزيع مساحة المدينة على السكان، يتسع لكل ساكن 5 أمتار مربعة فقط.
كارلين كار، أميركية تهتم بشؤون الفقراء في مومباي ترى أن هذه المدينة تمتلئ بالتناقضات حيث تعتقد أن الضغوط الواقعة على أهل المدينة تتجاوز الازدحام المروري بكثير.
تقول: “خلال وجودك هنا في مومباي، ستشاهد بشكل يومي الكثير من الصراعات من أجل العيش، إنه لأمر محزن أن ترى على سبيل المثال إحدى الأمهات تضطر لتسول الطعام لتطعم أولادها، آخرون يجمعون القمامة للحصول على بضعة روبيات، هذه الضغوط والصراعات ما هي إلا نتيجة عدم المساواة ونقص الموارد الأساسية للعيش وعدم وصولها إلى جميع سكان المدينة، لذا يمكنني القول إن الضغوط التي تتعلق بالحياة في المدن تختلف هنا في مومباي”.