ليس القصف المتبادل بالألفاظ البذيئة، على شاشات التلفزيون المصري، أردأ ما في المشهد الآن، وليس “الحوار الوطني الموسع” حول مسألة “البورنو” في التوك شوز، واشتعال الحروب ضد “انتصار وأخواتها”، أقبح ما في الصورة.
الأردأ والأقبح من معركة منتج اللحوم، في السينما ومحلات الجزارة، مع مذيع متخصص في استدراج الضيوف وتسليمهم للأمن، أو للمواطنين الشرفاء، والأفدح من الانحدار بالنقاش إلى: إظهار صدر الأنثى في الشارع أو حجبه، هو ذلك المنطق الساقط، الذي اشتمل عليه بيان وزارة الخارجية المصرية، ردّاً على ما كتب في صحيفة “نيويورك تايمز “الأميركية بشأن فضيحة إقدام السلطات المصرية على إغراق حدود غزة بالمياه.
يأتي البيان متزامناً مع تساقط شهداء الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، في الضفة الغربية والقدس، وبدء الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، المحاصر مصرياً وإسرائيلياً، ويتحدث عن ذلك “الحق السيادي” الذي تمارسه الحكومة المصرية، وما يصفه البيان بأنه “واجب دولي للدفاع وتأمين حدودها ضد جميع أنواع التهريب غير المشروع”.
لا أحد ينازع مصر في هذه السيادة، غير أنه عندما يأتي الكلام عنها في سياقٍ مؤذ للمواطن الفلسطيني، الذي يتعرض لحرب إبادة في الناحية الأخرى، فإنها تكون سيادة الرديء من القيم والمعاني والمواقف، ويصبح القرار الوطني هنا معبراً عن رغبات عدو صهيوني، يتوحش على شعب محاصر، فتزيده هذه السيادة حصاراً فوق حصار.
تعلم السلطات المصرية جيداً أن الرئة الأساسية التي يتنفس منها قطاع غزة هي معبر رفح، الذي تغلقه القاهرة، ولا تفتحه إلا بشكل استثنائي، ومن ثم يمكن القول إن حفر الأنفاق، الواصلة بين الأراضي المصرية والقطاع، كانت نتيجة لتشديد الخناق المفروض مصرياً على أهالي غزة، وتتغافل الحكومة المصرية عن تقارير عديدة، تحدثت عن أن “بيزنس الأنفاق” كان يجري بعلم جهات رسمية مصرية ومشاركتها.
يقول بيان الخارجية إن “ما أقدمت عليه الدولة المصرية من هدم الأنفاق يرجع لكونها تحت الأرض، ما يجعلها بعيدة عن السيطرة والتحكم، من ثم كانت هناك حاجة ملحة لردمها، خاصة وأن عمليات التهريب غير المشروعة التي تتم بين غزة ومصر عبر هذه الأنفاق السرية تمثل تجارة رابحة للمهربين، الأمر الذي انعكس بالضرر على الاقتصاد الفلسطيني، وزاد من معدلات البطالة، حد قولها”.
حسناً، لا يمكن أن ينطلي على عقل طفل أن السلطة الحالية في مصر يهمها، من قريب أو من بعيد، حالة الاقتصاد الفلسطيني، وإلا لما لعبت دوراً أكبر من إسرائيل في خنق هذا الاقتصاد، وممارسة حرب التجويع على الشعب الفلسطيني في غزة، بإغلاق معبر رفح، ليصبح الفلسطينيون واقعين بين فكي “كماشة” إسرائيل من جانب، ومصر من الجانب الآخر، ويمكن الرجوع إلى أرشيف الإهانات الرسمية المصرية لآلاف الفلسطينيين الذين يتكدسون عند المعبر، بغية المرور منه.
وإذا كان الوضع في الأراضي الفلسطينية مرشحاً للتدهور، في الضفة والقطاع، في ظل تحفز الاحتلال الإسرائيلي لحرب شاملة على الفلسطينيين، فإن سد المنفذ الوحيد للنازحين من أهوال آلة الحرب الصهيونية لا يعني سوى أن من يفعل ذلك يقدم دعماً هائلا للمعتدي على حساب الضحية، ويخشى من أن نكون بصدد تنسيق مصري إسرائيلي، تؤيده تلك اللغة الموحدة، التي يتحدث بها الجنرالات على الجانبين، في مشروعهما المشترك للحرب على الإرهاب، الذي هو مقاومة الشعب الفلسطيني، من وجهة نظر الشريكين.
باختصار، هذا بيان سيئ ومدلس، في لحظة تشتعل فيها النفوس بالغضب، والإحساس بالعار من التواطؤ الرسمي العربي، على انتفاضة شاملة تتشكل دفاعاً عن الأرض والمقدسات، ولا يقل عنه تدليساً وافتراءً أن يخرج بطريرك الكنيسة المصرية بتصريحات مفرطة في التلفيق والاختلاق، يقول فيها إن مذبحة المدرعات المجنزرة، التي نفذها المجلس العسكري بحق الأقباط، في أحداث ماسبيرو 2011 كانت مؤامرة إخوانية. هي الرداءة عندما تتوشح بالسيادة الوطنية، كما في بيان الخارجية، والافتراء حين يرتدي مسوح القداسة، كما في تصريحات البطريرك.