كانوا يصرخون “تحيا مصر”، كلما وجدوا أنفسهم بصدد استحقاق لازم، أو سؤال موضوعي، يرددونها ثلاثًا، بشكل هيستيري، قافزين في أحراش الوطنية الفاسدة، للاختباء، والابتزاز، ومواصلة الاستثمار في الأوهام والاتجار في الأكاذيب.
الآن، لم تعد “تحيا مصر” تسد رمق الجائعين للأجوبة، ولا تقي من انهمار سيول الأسئلة، بعد أكثر من عامين، تمتع فيها نظام عبدالفتاح السيسي بوضعية طفل العالم المدلل، والمريض الأولى بالرعاية، من أولئك الباحثين عن جنرال يمارس الاستبداد والقمع بيد، وبالأخرى ينفذ ما يأمره به الرعاة، على النحو الذي يحقق مصالحهم، وفي العادة، تكون هذه على حساب المبادئ والقيم المحترمة.
وفي الداخل، يتمتع بمكانة الصنم المقدس، التميمة، أو “المبروك” في تراث الخرافة الشعبية، الذي لا يجيد الكلام، ولا الفعل، ولا التفكير، لكنه مثل “الخرزة الزرقاء”، يكفي وجودها على باب الدار لجلب الرزق، كما يعتقد ضحايا الدجل والشعوذة.
قبل عام تقريبًا، وتحت عنوان “الزعيم السيسي في الحضانة” كتبت الآتي:
يسلك عديد من النظم السياسية العربية والدولية مع عبدالفتاح السيسي، باعتباره الزعيم الذي ولد مبتسرًا. ومن ثم، لا مناص من وضعه في “حضانة”، أملًا في اكتماله وامتلاكه القدرة على الحركة والقابلية للنمو. وبعد أكثر من 18 شهرًا مضت على “زرع” هذه الزعامة الاصطناعية في مصر، يكتشف الرعاة والداعمون أن كل ما فعلوه لم يحقق المطلوب، فقد ضخت هذه النظم الكثير، لتوفير البيئة الملائمة لإنجاح عملية إنضاج الزعامة المبتسرة في حضانةٍ، لم يبخل عليها أحد بالمال والسلاح وأطقم الحراسة”. وأتبعت “والمدهش أن زعيم الجماعة الانقلابية يسلك، هو الآخر، وفقًا لسيكولوجية المبتسرين؛ إذ يكاد يكون مستقرًا في يقينه أنه طفل العالم المستحق للرعاية الشاملة، كونه يردد ما يملى عليه من “كتاب الأناشيد” الخاصة بالحرب على الإرهاب. ومن ثم يريد إسقاط مديونيات، إسكات منابر إعلامية، إبعاد معارضيه وتشريدهم في كل واد، ابتزاز معونات ومساعدات، وكأنها حق أصيل، إلى آخر معطيات هذه الحالة التي لا تجدها إلا في مجموعات التسول بعاهات مصطنعة”.
كان ذلك في ديسمبر من العام الماضي. والآن، بعد مرور سنة أخرى، يكتشف الجميع أن الطفل المدلل، خارجيًا، والصنم المقدس، داخليًا، لا يملك مقومات البقاء، بعد أن استنفد عدد المرات المسموح بها بالرسوب، وأهدر كل فرص النجاح، فالداخل يغرق في مياه الأمطار، وعواصف الدولار، ويتخبط في عراء اقتصادي موحش، انخفض فيه الاحتياطي النقدي إلى ما تحت الصفر، والخارج يحترق بفعل فشله الأمني والاستخباراتي، ليصل الأمر إلى حدود اختراق الإرهاب للمطارات والمنافذ وتفجير الطائرات، في سيناء التي كان البند الوحيد، في سيرته الذاتية، المقدمة للحصول على وظيفة “حارس منخفض السعر لمشروع الحرب على الإرهاب”.
اكتشف الجميع هزاله، وأيقنوا أن استمراره خطر داهم؛ إذ يقود الطائرة بعقلية سائق الجرافة، أو المدرعة، أو ينطلق بدراجة نارية داخل محل للخزف والزجاج، لا تزيد مساحته عن عشرة أمتار مربعة.
وحين اكتشف العالم أن الصمت والتغطية على هذا الهراء سيجلب كوارث، تكلموا وفعلوا ما يرونه في صالحهم، فسارعت لندن بسحب السائحين البريطانيين على وجه السرعة، وتبعتها موسكو، وعواصم أخرى قررت تعليق رحلاتها إلى المطارات المصرية التي تستأسد سلطاتها على امرأةٍ، مثل ياسمين النرش، أو تلميذ أو كاتب أو ناشط تمنعه من السفر، لكنها شديدة النعومة مع احتمالات الإرهاب والخطر.
هنا، لم يخرج رد فعل النظام عن ترديد أناشيد الوطنية المختلة، وإطلاق ميكروفونات العبط تتحدث عن المؤامرة الكونية، على الجنرال الذي يرعب الأميركان، ودخلت روسيا إلى قائمة الأعداء المتآمرين، على الرغم من أن الأصوات نفسها كانت، قبل وقت قليل، تكاد تسجد للجاكيت ذي النجمة الحمراء، هدية بوتين الكبير إلى “بوتين الصغير”، كما حاول إعلام السيسي أن يختلق سمات وملامح وخصائص وجذور مشتركة لجنرالهم مع قيصر روسيا الجديد.
تمتد حالة الهذيان القومي، لتجعل إعلام السيسي يتحدث عن نجاح “الزيارة التاريخية لبريطانيا”، ثم بعد دقائق يُتهم الإنجليز بالتآمر ودعم الإرهاب، تمامًا كما أنزلوا بوتين من مرتبة الراعي الصالح والداعم الأكبر إلى الضعيف الخاضع للظروف، المتآمر.
ولا تتوقف الهلوسة على إعلاميين خلت أدمغتهم إلا من قاموس للبذاءة والإسفاف، لتشمل الرجل الأول في الدبلوماسية، فيستنكر سامح شكري وزير الخارجية موقف الدول الأوروبية المحذر من خطورة أوضاع الطيران في مصر، ويطالبها بأن تكون قمعية ومعتمة مثل سلطته، فلا تعلن ما لديها من معلومات وبيانات، عبر وسائل الإعلام، وتعطيها لمصر. منطق ساذج لا يختلف عن منطق “ما يصحش كده” الذي يشهره رئيسه في وجه كل منتقد أو معترض، أو حتى ناصح.
إنه نظام يهرب من فشله وبلادته في مواجهة الأمطار بإلقاء التهمة على “الإخوان” بسد البلاعات، ويبتز الذين أصابهم الهم والغم على وصوله بمصر إلى مصاف الدول الأكثر فشلا، باتهامهم بالشماتة، وتنتفي فيه الفوارق بين “البيان الرسمي” و”الجنون الرسمي”، ويردد، طوال الوقت، أن كل سكان الكرة الأرضية يتآمرون عليه. ويواصل دغدغة عواطف المخدوعين فيه بعبارات “مصر لن تركع”، تلك التي اخترعتها فايزة أبو النجا، وزيرة مبارك سابقا، وصانعة فكر السيسي وخطابه، بشأن علاقته بالعالم، حاليًا.
ومع نظام بهذه المواصفات البائسة، يصبح الصمت على الإهانة الدولية التي يعرّض لها مصر نوعاً من الخيانة، فارحمونا من “أستاذيتكم الفارغة”، وحديثكم التافه عن الشماتة والتشفي.