تطرقت مقالة الأسبوع الماضي إلى قصة الدولة الجابية، حينما يتفنن النظام الاستبدادي في اختراع الجبايات أشكالاً وألواناً مما لا يخطر على بال. ونتحدث اليوم عن الدولة المستباحة، حينما يستأسد المستبد فيها على أهل الوطن، لا يراعي فيهم ذمة، ويستبيح الحرمات، ويزهق النفوس، ويطارد الكلمة، ويعد الأنفاس، ويعتقل كل من تجرأ وأبدى احتجاجاً وقال لا، وربما لم يقلها، وإنما يحاسب بالنية فيها، وفي الإعلان عنها، يئدها من المنبع بكل ألوان بطشه وطغيانه، بينما هو في علاقاته الخارجية يمارس كل طقوس الانبطاح، وكل صنوف الإذعان، لاعتبارات كثيرة، تشكل دوافعه في ذلك، لكنها كلها، في النهاية، تصب في طلب شرعيته من خارج، لأنه ينكّل بعموم الناس في الداخل، ويظل المستبد بعدما فعل كل موبقة تتآكل بسببها شرعيته التي تستند إلى رضا الناس في الداخل، بينما يبحث عن بديل الخارج، فيتلمس مصالحهم، فيؤديها لهم بلا ثمن، وضمن حالة ابتزازية خطيرة على الوطن وأهله.
إنها حال الدولة المستباحة في أفج صورها الدنيئة والحقيرة، شعارها أسد عليّ وفي علاقاته بالخارج نعامة، يسترضي هذا ويجلب رضا هذا ويتلمس رضاهم بتنازلاتٍ شتّى، هو لا يرى شرعيته إلا من نظارتهم، فيحققون مصالحهم من أقرب طريق، وبكل صنوف الابتزاز، ولم لا، وهو المكسور قبلهم، والمستأسد على ناسه يبطش بهم، فالقضية في قابليات المستبد لحال الابتزاز الحقيرة والخطيرة معاً، فإذا ما اجتمعت عليه صنوف الابتزاز ألواناً، كان عملة الصمت الرهيب، والسكوت حيث يجب الكلام، وتبدو كل الأمور في مشهدٍ مستبدٍ يعطيه كل من هب ودب على قفاه، فإن كان لديه بقية من كلام، فهو تبرير وتمرير وتزوير على الحقيقة، لا يجد من الكلام ما يسعفه، إلا أن يشير إلى جوقته الإعلامية في عملية إنقاذ عاجلة، لا تحتمل التأجيل، وأيسر الخطاب الصادر عنها “إنها المؤامرة.. الدنيا كلها تتآمر علينا وتستهدفنا”. كانوا بالأمس يتحدثون عن رضا الغرب بأنه أهم أمانيهم، واليوم يصرخون: الغرب يتآمر علينا، أميركا الشيطان الأكبر، ويقبع المستبد في مكانٍ ما، يلفه الصمت المريب، ليرقب نتيجة خطاب أبواقه وسدنته.
سكتت السيادة وسكنت همسات الاستقلال والسياسات المستقلة، وتوارى خطاب “مصر عاوزة دكر”، إلى خطاب مهين “إنهم يستهدفون مصر”. اختفى الدكر ولا نسمع له كلاماً، ولا أحد يقيم له مكاناً أو مقاماً، ويبدو الخطاب من الخارج يفصح رويداً رويداً عن صناعة مشهد خطير من مشاهد التدخل الفاجر، والتدخل الزاعق بأشكال من القرار والسياسات. المستبد يتلقى اللطمة تلو اللطمة “يأخذ على قفاه”، لكنه لا يتحدث، لا يتكلم، لا يرى، أصم أبكم في موقف خطير ومشهد حقير، تغتال فيه كرامة الوطن ومكانة الوطن. المهم أن يمر هو بسلام، يثبت نفسه على كرسي السلطة والتسلط، وليذهب كل شيء وأي شيء إلى الجحيم. يا الله ما هذه الحال البائسة الفاشلة، وفي المشهد الكئيب المريب، يهتف بعضهم متسائلين “أين الدكر؟!”.
في حادث الطائرة الروسية في شرم الشيخ، يتوالى علينا مفتشون من كل مكان، بدعاوى مراقبة السلامة، دول تتحدث أن سيناء صارت خارج إطار السيطرة، وتتصاعد المواقف من بعضها أن الأمر يتطلب تدخلاً، وربما يكون عسكرياً. ذكّرني ذلك بكتاب الدولة المستباحة كنت قد قرأته، أطور فيها بعض ما فهمت، فالدولة في نظامها الرخو تركيبٌ شائك بين العنصرين، التجريدي والعيني، بين الخيالي والواقعي، وبين الشبحي والجبروتي. ظهر بوضوح أن مقولة الدولة/ الأمة في حق هذه الدول التي تتحكم فيها أنظمة مستبدة متسلطة أصيبت بالتراجع والضمور، إذ يتزايد عبور موارد السلطة من مكان إلى مكان آخر، متجاهلا الحدود، ساخراً من سيادات الدول الهشة والمستبدة في آن، بل ملتفاً حول هذه الدولة، مطوقاً إياها بأغلال لم تعهدها من قبل. إنها محملة أكثر فأكثر بموارد سلطةٍ، تتهرب بحكم طبيعتها من سيادة الدولة.
ولكن، أياً كانت الأسئلة والأفكار الجديدة، فقد تبين أن الجغرافيا والتنازع فيها وعليها وحولها هي الحقيقة المؤسسة للتاريخ الجديد، فقد ظهر من أرض البلقان إلى أفغانستان إلى العراق أن العالم سينعطف إلى ما لا يمكن وصفه بأنه أمر عادي، وبدا كما لو أن الإمبريالية القديمة تعود، عن طريق الغزو والاحتلال المباشر، لتمسك بزمام عالم القرن الواحد والعشرين. ظهر العالم وكأنه يستعيد البدايات الأولى لحروب الجغرافيا السياسية، والاستراتيجيون الدوليون الذين أخذتهم الحيرة مما هو حادث، قالوا إن شيئا واحداً نحن على يقين منه، هو أن جبال أفغانستان وأرض العراق الممتدة وسيناء مصر في حراك التاريخ أعادت الاعتبار إلى مقولة الأرض العارية، والأوطان المستباحة، والسيادة الموهومة، ويشكل المستبد غطاء لتلك السياسات، لتحكم معادلات تكرس معاني الدولة المستبيحة، والدولة المستباحة.
الوطن في حال امتهان والمستبد في حال صمت الجبان، والخارج يبتز المستبد المُهان، وإعلام يتصور أن السياسات والمصالح يمكن أن تدار بعلاقات شخصية، أو بخطاب نور عيونا، أو بعبارات العلاقات المتينة العميقة الوثيقة من فائض الأوصاف والكلام، فتخرج المانشيتات “حتى أنت يا بوتين”. ودولة تقول إن لديها معلومات لا تفضل أن تشاركها مصر فيها، دولة استقبلته منذ أيام، وكيان صهيوني يحذر من خروج سيناء من يد السيطرة، وإطلاق يد الإرهاب فيها، والحديث عن تدخل وشيك، أو زيادة قوات حفظ السلام المزعوم إلى قوات حرب على الإرهاب، والدكر صامت، وكأن سيناء هذه ليست من وطنه، بل ويخرج كاذب مدلس يقوم بكل أنواع الانبطاح أن “مرسى” عرض عليه قطعة من سيناء، ويمتشق هذا المنبطح أسلحة البطولة الكاذبة الزائفة من أنه قد رفض هذا. ولكن، في النهاية يصمت الدكر؟ هل يظهر الدكر فقط حيث يجب أن يختفي، ويختفي ويصمت، حيث يجب أن يظهر ويتحدث، أم هي مسرحيات التدخل الاستبدادي تدلف إلى المشهد باتفاق، غزو روسي لأرض سورية بغطاء من مستبد جزار يسمى بشار، وتدخل محتمل على أرض سيناء بغطاء المستبد المنقلب السيسي، ولا بأس بقنابل دخان من أجهزة الإفك الإعلامي إنها مؤامرة الغرب علينا. وفي هذا المشهد الكبير الحقير الخطير، لا بد أن نكشف المستور عن المستبد المقبور إن شاء الله، والمنقلب المدحور.. أين الدكر؟.