يحيّرني تماما وجه أحمد موسى، وخصوصًا تلك الشحنة الانفعالية الملتصقة به طوال الوقت، فهل هي انفعالية أم تمثيلية، يشترك معه في تلك الشحنة توفيق عكاشة والمحامي فريد الديب بدرجةٍ ما.
يبدو أحمد موسى وكأنه وضع في حالة ارتباك دائم، أو مثل شخص خارج من عراكٍ في سوق، ثم جاء إلى عمله أمام الكاميرا، أو مثل شخص ضاعت محفظته بكل فلوسها، وقد خرج توًّا من قسم السيدة زينب، بعد تحرير محضر بذلك، أو مثل شخص فلاح بسيط من قرية بعيدة يمشي في السوق، وقد أمسك رسن بهيمته التي سوف يبيعها، بعد عناء وتربية سنتين، فجأة وجد آخر الرسن في يد رجل يضحك، ويخرّ من الضحك، يبيع الشاي في وسط السوق، بعدما قطع لص الحبل بموس حامٍ، وأخذ البهيمة من ورائه وشرخ، وترك له باقي الحبل، فنبّهه الرجل أن بهيمته سُرقت، فأخذ الفلاح الحبل مبهوتًا، وأخذ يلفّ في السوق باقي اليوم على بهيمته ويجعّر.
لا أعرف إلى الآن سر ارتفاع صوت أحمد موسى في الأستوديو، على الرغم من أنه أمام الكاميرا، ولم يسرقوا منه بهيمته، ولا أي شيء من هذا القبيل، ولا قطعوا من وراء ظهره الحبل، بل هو يتقاضى من اللحم الحي أو الميت، من فلوس رجال الأعمال، كل سنة، ما يوازي 14 مليون جنيه. فما سر هذا التوتر الدائم في وجه أحمد موسى؟ ولماذا يجعر أحمد موسى دائمًا في الاستوديو كما الفلاح المسروق صاحب البقرة؟
أعرف أن تاريخ طفولتنا الضائعة يمشي وراء ظهورنا بشكلٍ ما، وحتى تاريخ حرماناتنا أو فشلنا ونحن أطفال، يظل هذا التاريخ يتبعنا، كما يتبعنا ذلك اللص في السوق، حتى الأحزان، هي الأخرى، تتبعنا في المدن، أحزاننا الأولى، وارتجافاتنا الأولى، وحتى اندهاشاتنا الأولى، وحتى ضياعنا الأول، في سوق، أو في مولد، أو ضياع وطننا ونحن أطفال، وأظن أن لمحمود درويش قصيدة تشير إلى هذا المعنى، وهذا الحزن الذي يسير وراءه في مدن العالم منذ الأزل.
ما يحيرني في أحمد موسى ليس الارتباكة الأولى، ولا الحزن الأول، بل صيحات الدم التي يطلقها، مثل “أنا عاوز دم” أو “مش عاوز حد على وش الأرض منهم خلال ساعات، مفهوم؟” أو “عاوز دم يعني عاوز دم”.
فجأةً، يتحوّل صوت أحمد موسى من وضع طالب الدم إلى وضع الابتسام، وقد شرخ فمه، وإذا بالمتصل هو المحامي فريد الديب، وينبهه بشكل هادئ: لا تنزعج، يا أحمد بيه، القانون سيحسم كل هذا.
أما لو كان المتصل به هو توفيق عكاشة، فيكون الرد: أنا قلت ده من بدري، يا أحمد، بس ما صدقتونيش، وده آخرتها، وقسمًا عظمًا إن ما شيلنا السلاح الآن ليتلعب بينا الطموزة من عيال 6 إبليس.
بعد ذلك، يتصل بأحمد موسى صوت هادئ آخر، ولا يتكلم إلا بالقانون، فيكون هو الدكتور شوقي السيد، تظهر صورته أمام الكاميرا، وتتأكد من الملامح ومخاتلة الحجج والبراهين، مرة يعود بك إلى دستور 71، ومرة يقفز بك إلى قوانين المحكمة الدستورية، يرد أحمد موسى على الدكتور شوقي السيد بأن طريقنا الوحيد، يا دكتور، هو الخلاص النهائي، والمشاهد يعرف معنى الخلاص الذي أقصده.
يرد دكتور شوقي السيد بأدب: كل خلاصنا، يا أحمد بيه، موجود بوضوح وحسم في مواد الدستور، يسأله أحمد موسى: ومتى تفعّل، يا دكتور، مواد الدستور؟ بعد أن يخلصوا على أولادنا؟ يرد عليه دكتور شوقي السيد: نحن أمام الاستحقاق الثالث، يا أحمد بيه، كما أن الرئيس في يده سلطة التشريع فلا تقلق، يضحك أحمد موسى طبعًا، ويفشخ فمه شاكرًا دكتور شوقي السيد، ثم ينبّه السادة المشاهدين بأن لدينا بعد الفاصل السيد الفاضل المستشار مرتضى منصور، كي يمتّعنا بحضوره وعلمه ومستنداته، حتى إلى ما بعد نصف الليل.