كتبت عن اختيار أحمد الطيب شيخًا للأزهر، في مارس 2010 تحت عنوان “مولانا الذي من لجنة السياسات” ما يلي:
“إذا كانت الحكومة تتحدث، طوال الوقت، عن أن الأزهر مؤسسة مستقلة، وليست مطية، ولا أداة فى يدها، فلماذا الإصرار على اختيار واحدٍ أبرز مؤهلاته أنه عضو بارز فى الحزب الوطني الحاكم، وأسأله بهذه المناسبة هل سيحتفظ بعضويته فى الحزب الوطنى، جنبًا إلى جنب مع نواب القمار والكيف والفساد، بعد أن أصبح إمامًا أكبر للمسلمين؟”.
لم يمر وقت طويل على هذا التساؤل، حتى كان الطيب يجيب، في حوار تليفزيوني على الهواء مباشرة، بالقول إن العلاقة بين الأزهر والحزب الحاكم هي كالعلاقة بين الشمس والقمر، أو كما بين الليل والنهار، يتكاملان.
وإن هي إلا تسعة أشهر، من هذا الحوار، حتى اكتمل جنين الثورة في بطن مصر، وحانت لحظة الميلاد في الخامس والعشرين من يناير 2011، ووضعت البلاد ثورتها، وكان أول ما سقط واحترق، بلهيب غضبها، الحزب الوطني الحاكم، المبنى والمعنى، غير أن إمامه الأكبر كان يمتلك من الرشاقة والمرونة ما جعله يقفز من أعلى الحزب، ليستقر في رحاب المرحلة الثورية الجديدة، محتفطًا بموقعه، شيخًا للأزهر، في زمن المجلس العسكري، ثم تألقت مرونته وخفة حركته، مرة أخرى، بعد انتخاب الرئيس محمد مرسي، ليحافظ على مركزه الديني في العصر الجديد.
في كل هذه التحولات والمنعطفات السياسية الحادة، كان الدكتور أحمد الطيب يمتلك القدرة على التكيف والانسجام، فبعد أن كان دعاة الحوار الوطني وضيوفه المنتظمين على قصر الاتحادية، حين كان الدكتور مرسي رئيسًا، جاء الوقت ليلعب الطيب الدور نفسه، وبالحماس ذاته، مع سلطة الانقلاب العسكري.
تماهى الطيب مع الجنرالات، وتشرب أفكارهم، واعتنق مذهبهم، حتى بات يستحق ما هو أكثر من رتبة اللواء، فيفتي في الشؤون الأمنية، كما يشرّع في المسألة الانتخابية والعملية السياسية بفكاهة وصرامة، في آن معا، تماماً كما هو الخطاب الصادر عن لواءات المجلس العسكري.
في حمأة غضبه من ضعف الإقبال على المرحلة الثانية من انتخابات برلمان العسكر، وخصوصًا من الشباب، اعتبر الطيب أن مقاطعة الانتخابات تعادل عقوق الوالدين، شارحًا أن مصر هي “الست الوالدة”، لا يجوز التأخر عنها. هذه الركاكة المعممة، الصادرة من رجل بمكانة إمام المسلمين الأكبر، وبدرجة أستاذ في العقيدة والفلسفة، لا يضاهيها ابتذالًا وإسفافًا، إلا ما تحدث به أحد أعضاء المجلس العسكري، عقب مذبحة محمد محمود في نوفمبر 2012، حين طالب الثوار بحكومة إنقاذ وطني، تحقن الدماء وتعفي البلاد من جحيم، ناتج عن الإدارة السياسية البليدة لحكام مصر العسكريين. في ذلك الوقت، خرج اللواء ذو الإصبع الشهير، ليحول مؤتمرًا صحفيًا، انعقد والدم لا يزال يجري في الشوارع، إلى وصلة من الفكاهة، حين رد على سؤال بشأن الدعوات لتشكيل حكومة إنقاذ وطني، معتبرًا إياها مخططًا خبيثًا لإسقاط مصر، ويرفضها، لأنه “ما ينفعش نغير الأب وهو بيجوز ولاده”.
إذن، بحسب الطيب، فالأم هي مصر.. وبحسب الجنرالات، فالأب هو المجلس العسكري الحاكم في ذلك الوقت، والمشير السيسي الآن، تلك هي العلاقة بوضوح: زواج بالإكراه بين العسكر والدولة، سيكون كل من يحاول تحرير مصر منه القتل والإلقاء في جب الخيانة والعمالة والتآمر.
ومثل هذا الزواج الحرام، لكي يقع ويتم، ويحاط بسياج من الشرعية الزائفة، لا بد له من رجال كهنوت، من نوعية الشيخ أحمد الطيب والأنبا تواضروس، يحللون لصاحب السيف الباطش كل ما يريد، ويرجمون كل من يعارضه.
ولأنه زواج مشين ومختل، فإنه لا ينتج عنه إلا نسل من نوعية تهاني الجبالي، والمبروك توفيق عكاشة، ومواليد أُخٓر مثل مصطفي بكري وسيف اليزل، وسياسيين ومذيعين يتكاثرون كالفطر، يحوّلون الوطن إلى ما يشبه عنبر للحالات الخطرة في مستشفى فسيح للأمراض العقلية والعصبية.
وطن يبدو صغيرًا ضئيلًا، لا يُرى بالعين المجردة، يعيش على ما يتساقط من فتات موائد الكبار، إلى الحد الذي ينشر فيه الكاتب البريطاني الشهير، ديفيد هيرست، وثيقة تتحدّث عن أن حاكم خليجي ضاق ذرعًا من طلبات الجنرال المدلل، صارخاً “قولوا له لست صرافًا آليًا”، ولا يخرج أحد من قاهرة الأزهر يرد، أو ينفي أو يظهر أدنى رد فعل.