من بين تفاصيل القهر اليومي الذي صار معتادا، تحكي عاملة الكوافير عن أمين شرطة قرر إفساد وجبة “مسقّعة”، كانت قد ذهبت بها إلى أخيها، حيث أحضر الأمين خشبة من الأرض ليقلب بها الأكل، زاعما أنه يبحث عن موس أو مخدرات، وكأنه لا يستطيع البحث بشكل آخر، إن كان أصلا جادّا في البحث، ولا يفعل ذلك من باب التكدير الذي يبهجه، تحكي أيضا عن طابور الزيارة، الذي يستمر أحيانا بالثلاث ساعات دون أن يسفر عن زيارة في نهاية المطاف، “عارفة مرة في طابور من الطوابير، أمين الشرطة وقّفنا ساعتين، وبعدين فجأة قال لأول راجل: ارجع ورا يا حاج، قاله: بس أنا أول واحد جيت يا ابني وواقف بقالي ساعتين، قاله هو كده خلّص، الراجل قاله لا مش هارجع أنا حقي أقف هنا، قاله مش هترجع يا روح أمك طيب تعالى، ونزل فيه تلطيش، وفي شاب حاول يدافع عنه، فاتعاقب بإن راسه تترزع في حيطان القسم لغاية ما نزف واترمى في الزنزانة، مع إنه كان جاي عشان يزور ابن عمه”.
لا يمكن فصل حالة أخو الكوافيرة، عن حالات الظلم المبين التي تحدثنا عنها بالأمس، والتي تقع على المساجين السياسيين، لأن ظلم رجال الشرطة يطول أيضا الآلاف من المساجين الجنائيين، وخصوصا من الفقراء، الذين لا يلتفت أحد لعرض معاناتهم اليومية في الأقسام والسجون، لأن ثقافة مجتمعنا تقبل للأسف بإسقاط الحقوق القانونية عمن يرتكب جريمة جنائية، بمجرد توجيه الاتهام له، دون أدنى مراعاة لكل ما يوجد بنظامنا الأمني والقضائي من عيوب جسيمة، وهو ما يتضاعف تأثيره بعد الحكم بإدانته، ليصبح من يطلب للمتهم الجنائي حقوقه القانونية، أو يعترض على إساءة معاملته، متهما بأنه يرغب في التسامح مع الجريمة وتشجيعها، ليسود على الدوام منطق “الأشكال دي ما تجيش غير كده”، بين عموم الناس من مختلف الطبقات، الذين يتوهمون أن إهدار حقوق المتهمين والمجرمين يمكن أن يحفظ حقهم في الأمن، وبالتالي لا يتذكرون أهمية العدالة والإجراءات القانونية، إلا حين تضطرهم ظروف الحياة يوما ما، إلى أن يجدوا أنفسهم مكان من سبق أن أنكروا عليهم العدل، سواء كانوا مظلومين أو جناة، ليدركوا متأخرا أهمية أن تسود في المجتمع دائما، معايير عادلة يستفيد منها الكل جناة كانوا أم أبرياء.
(6)
في واحد من مقرات أمن الدولة في الجيزة، انقطعت أوتار يد عبد الرحمن علي طاهر المصور في موقع مصراوي وعضو حركة ستة إبريل، وأصيب بخلع في كتفه، بعد تعرضه للتعذيب، بسبب رفضه لأن يسلم الأمن فيديوهات سبق أن صورها في الجيزة لإحدى المسيرات المعارضة للسيسي، بعدها تم إيداع عبد الرحمن في سجن استقبال طرة، لتجدد النيابة حبسه مرات عديدة، بعد توجيه حزمة اتهامات له، هي حيازة كاميرا وتصوير بدون ترخيص والتعامل مع وكالات صحفية أجنبية، والشروع في قتل ضابط.
للأسف كانت أول مرة أسمع فيها عن قضية عبد الرحمن قبل أيام، حين قرأت أنه مضرب عن
“حرص السيسي على تخصيص الجزء الأخير من خطابه الأبوي الحميم، لتحذير “شعبه الطيب المهاود” من الشائعات والدسائس وحملات الوقيعة والفتنة” |
الطعام منذ 60 يوما، وسط تجاهل إعلامي لقضيته، في نفس الوقت الذي كنت أقرأ فيه رسالة من المصور الصحفي محمود أبو زيد الشهير بـ (شوكان) أرسلها من محبسه في سجن طرة، قبل أيام من أولى جلسات محاكمته، التي تم تحديدها بعد 850 يوما قضاها في السجن دون محاكمة أو اتهام، نعم للأسف الرقم الذي قرأته صحيح، 850 يوما، وحين تتأمل فداحته، ستدرك لماذا كتب شوكان في رسالته قائلا: “من المستحيل أن أشعر أن هذا سيكون يوم العدالة، لا أريد أن أحبطكم، لكني فقط أحاول أن أكون واقعيا، ففي بلدي فقدنا معنى هذا النوع من الكلمات، بالطبع بعد أكثر من 850 يوما في ثقب أسود بدون إنصاف أو عدالة، فقد ضعت في طي النسيان، مع أني فقط كنت أؤدي عملي كمصور، أنا في السجن دون حتى أن أعرف لماذا أنا هنا، أصبحت شخصا يائسا تماما، هذه هي شخصيتي الجديدة، لكن مع ذلك سأظل مقاوما بسبب جميع الناس الذين دعموني وساندوني ووقفوا إلى جانبي، أنتم أصبحتم قوتي وطاقتي وتشعرونني بأنني لست وحيدا. الصحافة ليست جريمة”.
(7)
لكن الصحافة الحرة في واقع الأمر جريمة فادحة عند نظام السيسي، يدفع ثمنها الآن 63 صحفيا يقبعون خلف السجون، طبقا لإحصاءات الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، كان آخرهم الباحث والصحفي المتميز إسماعيل الإسكندراني، الذي تم القبض عليه عند عودته إلى مصر، بعد رحلة عمل خارج مصر، ليدفع ثمن كتاباته الجريئة، وخصوصا تلك التي ألقى فيها الضوء على أوضاع أهل سيناء المأساوية، الذين وجدوا أنفسهم عالقين بين سندان الإرهاب المجرم ومطرقة الدولة الغشيمة منعدمة الكفاءة.
بالطبع لم يكن ممكنا أن تكتفي النيابة بمناقشة إسماعيل فيما كتبه، لكي لا تثير اهتمام أحد بما سبق له نشره في صحف ومواقع إلكترونية محترمة، لذلك قررت أن تلجأ إلى التهمة الأكثر مبيعاً في مصر: الانضمام إلى جماعة الإخوان، لأن مجرد إلصاق هذه التهمة بأحد، يعني تبرير إسقاط حقوقه القانونية والإنسانية، وسط صمت مخجل من الجميع، ولذلك لم يكن غريبا أن تتعنت النيابة مع فريق المحامين الذي يترافع عن إسماعيل، لتمنعهم من حضور جلسة التجديد له، حتى يتم الإبقاء عليه في السجن فترة أطول، يتسنى فيها تلفيق تهم أكثر تماسكا له، لأن من يقرأ ما يكتبه إسماعيل في مقالاته، أو في مشاركاته على صفحته في موقع (الفيس بوك)، يعرف أن إسماعيل من أشد معارضي الإخوان الذين كان يصف قياداتهم وأعضاءهم ساخرا بـ”الزومبيز”، لكنه في نفس الوقت كان يرفض ما يتعرضون له من مظالم، وربما كان ذلك يشكل تهمة إضافية له، حتى لو لم تكتبها النيابة في أوراق التحقيق، أعني تهمة أن تكون إنسانا، لا يدفعك الخلاف الحاد أو حتى العداء لفصيل سياسي، إلى أن تقبل بإسقاط حقوقه الإنسانية والقانونية.
(8)
في شهر نوفمبر الماضي فقط، توفي الدكتور وحيد رمضان المعتقل بمعسكر الأمن المركزي بالعاشر من رمضان، بسبب معاناته من الإهمال الطبي، ولقي المعتقل عادل عبد السميع مصرعه بعد قيام ضباط وأمناء بقسم شرطة المطرية بتعذيبه وإطفاء سجائر بجسده، وهو نفس القسم الذي تعرض فيه محمد معوض المعتقل المعاق ذهنيا للتعذيب حتى أصيب بالغيبوبة، طبقا لتقرير نشره موقع مصر العربية، ولقي عماد حسن مناف مدير نقابة الأطباء ببني سويف مصرعه عقب اعتقاله وتعرضه للتعذيب من قبل رجال الشرطة، الذين لم يبالوا بكونه قد قام في العام الماضي بعملية قلب مفتوح تستوجب معاملته بحذر شديد، في حجز محكمة شبين القناطر لقي السجين عمرو سعيد أبو شنب مصرعه بعد تعرضه للضرب المبرح على مدى يومين، وفي الإسماعيلية تعرض الطبيب عفيفي حسني عفيفي لأزمة قلبية لقي بعدها حتفه، بسبب تعرضه للضرب والإهانة على يد ضابط بقسم أول الإسماعيلية، كان يجامل صديقا له يمتلك العمارة التي تقع بها عيادة الطبيب، ويرغب في إخراج الطبيب منها، وفي مدينة الأقصر لقي طلعت شبيب 47 عاما مصرعه داخل قسم شرطة الأقصر بعد تعذيبه من عدد من الضباط والأمناء، وتعرضت أسرة مسيحية من جيرانه للنهب من رجال الشرطة، بدعوى أنهم منضمون إلى جماعة إرهابية ــ شاهد الفيديو مريع التفاصيل على بوابة المصري اليوم إن أردت ــ .
في عين شمس قام ضابط وأمين شرطة بالاعتداء على سروجي بسبب 500 جنيه، ولا زال يرقد في حالة غيبوبة في مستشفى عين شمس بسبب الضرب الذي تلقاه من “ضهر طبنجتي” الضابط والأمين، في حين لقي المواطن ح. ف. وعمره 36 عاما مصرعه بغرفة حجز قسم شرطة عين شمس، ليدعي ضباط القسم أن ذلك حدث بسبب عدم تلقيه لجرعة المخدرات اليومية التي اعتاد على تعاطيها، مستدلين بأن أهله لم يتهموا أحدا في الواقعة، دون أن نعرف هل تجاهل الأهل موت ابنهم تسليما بقضاء الله، أم خوفا من قضاء ضباط القسم. أما في حدائق القبة فلم يسكت أهل شاب آخر على مصرع ابنهم، فاتهموا الشرطة بضربه حتى الموت، لكن ضباط القسم ادعوا أنه لقي حتفه أثناء مطاردة الشرطة له، وأنه سقط ميتا خلال قفزه بين بعض العقارات.
أما في قسم مركز مدينة السادات، فقد تعرض الطالب أسامة سعيد حامد الطالب بالصف الثالث
“دي تجاوزات فردية لازم نحطها في حجمها”، يقول السيسي ذلك بثقة شديدة، وهو يقف أمام ضباط شرطته مطمئنا وشاكرا، لأنه يعرف أن جمهوره المحب الولهان، لم يسمع من بين كل ما جرى من جرائم البوليس، إلا بالواقعتين اللتين حدثتا في الإسماعيلية والأقصر، بسبب الضغط الشعبي الواسع الذي أعقبهما، ولولا ذلك لظلتا كغيرهما مجرد سطور تسردها تقارير المراكز الحقوقية التي لا يقرأها الكثيرون، وربما لذلك حرص السيسي على تخصيص الجزء الأخير من خطابه الأبوي الحميم، لتحذير “شعبه الطيب المهاود” من الشائعات والدسائس وحملات الوقيعة والفتنة، ليصبح كل من يتحدث عن وقائع أخرى للقتل والتعذيب وانتهاك الحرمات، مجرد مروج للدسائس، وهادف إلى الوقيعة بين الشرطة والشعب، وساعٍ لإفساد “الملحمة العظيمة” التي كفلت للسيسي أن يحقق حلمه القديم، وضمنت له الجلوس على كرسي لم يكن أبدا أهلا له.الثانوي للصعق بالكهرباء والضرب المبرح وبعض الحروق في القسم الذي لا يزال محتجزا فيه حتى الآن، وهو ما تعرض له أيضا المعتقلان محمد العدوي وأحمد دبور بسجن برج العرب والمحكوم عليهما بإعدام من ماركة إعدامات ناجي شحاتة، واللذين حكيا لأفراد أسرتهما في الزيارة عن تعرضهما للتعذيب الشديد والتجريد من الملابس طوال اليوم بعد تقييد أياديهما، وهو ما تعرض له الطالب حسن رجب سلومة 21 عاما في سجن وادي النطرون، والطالب مصعب سيد خضر 19 عاما من ديروط الذي تعرض للتعذيب في مقر أمن الدولة بأسيوط، والطالب بكلية تربية رياضية عبد الله عصام فتح الله الذي تعرض للتعذيب والصعق بالكهرباء لكي يعترف بتهم لم يرتكبها على ذمة قضية جنايات عسكرية بالإسكندرية، وللأسف، قوائم الضحايا الواردة في أرشيف مركز النديم لحقوق الإنسان لشهر نوفمبر فقط، أكبر من أن أحصيها هنا، ويمكن لك أن تقرأ تفاصيلها على الإنترنت، إذا كنت تظن أنك بمأمن من الظلم، أو إذا كنت ممن يبررون أي ظلم يتعرض له مواطن، لمجرد أنه متهم بالانتماء إلى جماعة الإخوان، أو لأنه منتمٍ إليها بالفعل.
(9)
يعرف السيسي أن أنّات ضحاياه ودموع أهاليهم لن تصل إلى الناس، ببركة أذرعه الإعلامية، التي لا تمرر من المظالم، إلا ما يستحيل إخفاؤه عن عموم الناس، وحتى هذه، لا يخشى السيسي كثيرا من عواقب وصولها إلى الناس، لأنه يراهن على الخوف أولا والنسيان ثانيا، هو يدرك أن عموم الناس لن يخاطروا برفض الظلم، خوفا من أن يتعرضوا هم أيضا للقمع والقتل، وأنهم إن لم يهاجموا من يتحدث عن المظالم، ويطعنوه في وطنيته وشرفه، فإنهم على الأقل سينكرون وجود تلك المظالم، وحتى إن وقعت أمام أعينهم فإنهم سيبررونها، وإن عجزوا عن التبرير، فسيصمتون عليها، وبعد أن يمضي قليل من الوقت، لن يتذكر تلك المظالم أحد، سوى أهالي الضحايا، الذين سيضطرون بدورهم للتعايش مع الألم، ليستطيعوا توفير لقمة العيش، وستنحصر أحلامهم في إدخال الأدوية والبطاطين والأطعمة، وستتعلق آمالهم بلحظة تسامح تسكن صدر القائد الملهم، فيصدر العفو عن ذويهم، فإن تأخر تحقق ذلك، تعلقوا بالأمل في لحظة عدالة، تطيح به من على كرسي الحكم، ليخلفه حاكم يفتح صفحة جديدة، يكون أول سطر فيها الإفراج عن معتقلي سلفه.
وبين ما يعرفه السيسي عن “طبائع الاستبداد”، وبين ما يحلم به أهالي ضحاياه من “مصارع الاستعباد”، ستظل أحلام الاستقرار والتنمية والتقدم، التي تراود ملايين الصامتين والمبررين والمؤيدين، محض أوهام سيدرك المصريون حقيقتها، قبل فوات الأوان إن كانوا محظوظين، أو بعد فوات الأوان، إذا تجاهلوا عواقب تفشي الظلم والسكوت عليه، والتي تدفع بأي دولة مهما كانت قوية، إلى أن تكون يوما ما والعياذ بالله، “زي سورية والعراق”.