يشكل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس التركي رجب طيب أردوغان زوجا من الشخصيات المتناقضة المتنافرة، حتى لو لم يكن جنود البحرية الإسرائيليون يعتلون السفن في المياه الدولية ويقتلون المواطنين الأكراد.
منذ حادثة سفينة مافي مرمرة قبل خمسة أعوام، قضى هذان الرجلان وقتهما وهما يرمقان بعضهما البعض عن بعد، تماما كما كان يفعل نابليون وكوتوزوف على مشارف قرية اسمها بورودينو.
شبه أردوغان ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين بتلك التي كان يقوم بها هتلر، وذلك عندما انتقد نتنياهو لتجرئه على حضور المسيرة التي نظمت في باريس بعد هجوم تشارلي إبدو، فرد الإسرائيليون باتهام الرئيس التركي بأنه “متنمر مناهض للسامية”.
المفاجأة هي أن تعلم أن ثمة محادثات تجري بشكل جيد بين إسرائيل وتركيا لتطبيع العلاقات فيما بينهما.
اكتشف المسؤولون الأتراك أن نظراءهم الإسرائيليين منفتحون على الحوار بشأن ما تبقى من مطالب تتعلق بقضية السفينة مافي مرمرة، وما تبقى هو مطلب تخفيف الحصار عن غزة باستخدام قناة تركية لإيصال الأغذية والمستلزمات الأخرى، ويمكن أن يشتمل ذلك أيضا على توليد الكهرباء من سفينة ترسو في عرض البحر أمام ساحل القطاع.
قال أردوغان، إن تركيا قد ترسل سفينة إلى غزة لتوليد الكهرباء وتزويد القطاع بمواد البناء، وقال إنه تلقى ضمانات بأن إسرائيل سترفع الحصار عن غزة إذا ما توجهت كل المساعدات إلى غزة عن طريق تركيا.
لا جديد في الأمر، وعود على بدء. وسواء تعلق الأمر بقضية السفينة مافي مرمرة أو برفع الحصار عن قطاع غزة، كانت الآمال تسمو ثم لا تلبث أن تتبدد بسبب ما يطرأ من أحداث جديدة. وكان مسؤولون من البلدين قد خاضوا جولة من المفاوضات لحل الأزمة الناجمة عن قضية السفينة مافي مرمرة بعد الحادثة مباشرة وتوصلوا إلى ما يشبه مسودة الاتفاق، إلا أن ذلك جوبه بالاعتراض من قبل نتنياهو. ثم في يونيو 2013 اعتذرت إسرائيل عن الحادثة، ومنذ ذلك الوقت مايزال الشد والجذب قائما حتى يومنا هذا.
وعندما صرح وزير التجارة التركي بولنت توفنكشي تقريبا بما كان قد صرح به رئيسه: “إذا ما تم التوصل إلى اتفاق بين البلدين فسوف تسمح إسرائيل بالمنتجات ومواد المساعدة تركية المنشأ بالعبور من خلال تركيا إلى قطاع غزة”، رد نتنياهو بنفي موافقة إسرائيل على رفع الحصار البحري المفروض على القطاع.
وقال في اجتماع نظمه حزب الليكود: “إنهم (أي الأتراك) يحاججون ضد الحصار عن غزة ونحن بالطبع لا ننوي تغيير سياستنا بفرض الحصار البحري … وذلك رغم أن إسرائيل بلد يقوم بنقل {البضائع من أجل} بقاء وإعادة تأهيل قطاع غزة، إلا أننا لا يمكن أن نتنازل عن أمننا”.
لن يكون سهلا رفع الحصار الذي استمر لثمانية أعوام وشكل العمود الفقري لاستراتيجية مشتركة أطرافها هم إسرائيل ومحمود عباس والرباعية. وتظل المباحثات رهينة بما سيقع بعد ذلك من أحداث.
كتب آموس هاريل في هآريتز يقول إن الشين بيت يدعي أنه أحبط ثلاث محاولات من قبل حماس للإعداد لهجمات ضخمة داخل الضفة الغربية والقدس الشرقية. ويقول الشين بيت إن حفر الأنفاق تحت الحدود مع غزة مازال مستمرا على قدم وساق. ويخلص هاريل إلى القول إن “الكون الأساسي للوضع في الجنوب – استمرار حفر الأنفاق، وانعدام حاجز فعال على الحدود والحصار المشدد على غزة – يترك المجال مفتوحا أمام جولة أخرى محتملة من القتال”.
مصدر الشك الرئيسي الآخر هو شخصية نتنياهو ذاته، فقد كون لنفسه سمعة بأنه مفاوض لا يمكن الوثوق به، إذ لا يلبث أن يخلف وعوده وينكث عهوده ويغير مواقفه التي يكون قد عبر عنها في اللقاءات الخاصة ويتخلى عن محاوريه دون سابق إشعار أو إنذار. وقد قيل مرارًا بأن نتنياهو يفضل الاستمرار في التفاوض على الوصول إلى نتائج. ولكن هذه المرة ثمة شيء يمكن أن تتمخض عنه عملية التفاوض، فالنتيجة وحدها قد تساعد.
تأتي محادثات أردوغان في أعقاب الاجتماعات التي جرت بين مبعوث الرباعية السابق طوني بلير وزعيم حركة حماس خالد مشعل في الدوحة العام الماضي، والتي كنت أول من كشف النقاب عنها. إلا أن المحادثات التي اشتملت على دعوة خالد مشعل لزيارة لندن في يونيو من العام الماضي فشلت، لأن إسرائيل لم تبد اهتمامًا بها ولأن مصر اعترضت عليها. كما أن حماس نفسها كانت تساورها شكوك أساسية تجاه دوافع بلير.
كاهل إردوغان غير مثقل بأعباء بلير، ولا يمكن أن يتهم بأن له ارتباطات بالإماراتيين وبمحمد دحلان، رجل فتح القوي المتحدر من غزة، كما كان عليه حال بلير. ويظل أردوغان خصما عنيدا للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكانت تركيا قد آوت عددًا من كبار المسؤولين في حركة حماس بما في ذلك أحد مؤسسي كتائب عز الدين القسام صلاح العاروري، رغم أنه غادر تركيا فيما بعد. وما لبث أردوغان ومشعل يلتقيان من حين لآخر.
إذن، إذا كان نتنياهو يأخذ هذه المحادثات على محمل الجد، فالسؤال الحقيقي هو لماذا؟ ما الذي ستكسبه إسرائيل من الانفراج مع تركيا؟ لماذا تهتم بعد ثلاث حروب برفع الحصار عن “كيان معاد”، بينما طبقًا لما يقوله الشين بيت يتعرض الأمن الإسرائيلي للخطر أكثر من أي وقت مضى؟
إنه الغاز
لعل أحد الحوافز هو الحاجة إلى تصدير الغاز الذي تجثم إسرائيل فوقه من داخل الحقول التابعة لها. فالإعلان في العام الماضي عن اكتشاف كميات كبيرة من الغاز في المياه الإقليمية المصرية شكل عبئا على سلسلة من صفقات تصدير الغاز التي كانت إسرائيل قد وقعتها مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
يقال بأن حقل الغاز المصري الذي اكتشفته الشركة الإيطالية متعددة الجنسيات “إيني” يحتوي على ما يقرب من 849 مليار متر مكعب، وبذلك يفوق في حجمه حقل ليفياثان الإسرائيلي الذي يحتوي على ما يقرب من 621 مليار متر مكعب. وإذا تبين بأن مصر لم تعد بحاجة إلى غاز إسرائيل، فإن الأسواق الأخرى الوحيدة المتبقية أمام إسرائيل لتصرف غازها هي في الشرق الأقصى وفي أوروبا.
لن تتمكن إسرائيل من تصدير غازها إلى الشرق الأقصى إلا إذا تحول إلى غاز مسال، ونظرًا لأن هذه المرافق بطيئة وتكاليف إنشائها باهظة جدًا، يتوجب على إسرائيل الاعتماد على المرافق الموجودة في مصر وعلى عقود مع المعمل التابع للاتحاد الإسباني “فينوزا” والواقع في دمياط ومع معمل تسييل الغاز الطبيعي التابع لشركة شيل والموجود في إدكو.
ونظرا لأن الطريق المصري يغدو أكثر تعقيدًا في الواقع العملي مما يبدو عليه نظريًا، فإن مد خط أنابيب إلى تركيا ومنها إلى الأسواق الأوروبية يصبح أكثر جاذبية، هذا بالرغم من أن ذلك سيحتاج إلى حل أزمة أخرى، وهي تلك التي بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك.
في المقابل، فإن تركيا على استعداد لفعل كل ما يلزم من أجل تخفيض اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي بعد أن أسقطت طائرة روسية مقاتلة في المجال الجوي التركي على الحدود مع سوريا. والحسبة التي يحسبها المحللون الأتراك والروس تفيد بأن علاقة أردوغان مع بوتين أصابها عطب دائم بسبب تلك الحادثة.
والحافز الآخر يتعلق بغزة، ففكرة أن من مصلحة إسرائيل أمنيا أن تحافظ وتطور وقف إطلاق النار القائم مع حماس تسبق الحرب الأخيرة على قطاع غزة. وفي ذلك يقول رئيس الموساد السابق إفراييم هاليفي، الذي يصف حماس بأنها الصديق العدو: “حماس، على سبيل المثال في حالة حرب مع إسرائيل، وهي في الوقت نفسه تجدها تخوض معارك مع تنظيمات أخرى داخل قطاع غزة، وهي التنظيمات التي ترفض سلطتها، وهذا في واقع الأمر يخدم احتياجات إسرائيل الأمنية”.
تعزز منذ ذلك الوقت مثل هذا المنطق في النظر إلى الأمور. أيًا كان اسم الحراك الذي تشهده الضفة الغربية منذ مدة – الانتفاضة الثالثة أو انتفاضة السكاكين أو ثورة الأعمال الفردية – والذي تسبب حتى الآن في مقتل 153 فلسطينيًا وعشرين إسرائيليًا وأميركي واحد وإريتري واحد، إلا أنه بات الآن حقيقة سياسية قائمة على الأرض.
بقدر ما يتوق الشين بيت إلى إثبات وجود يد لحماس في التخطيط لهجمات أكبر، إلا أن عمليات الطعن والمداهمة بالسيارات كلها عمليات فردية وعشوائية وغير منظمة. والمشكلة هنا هي أن الأجهزة الأمنية التابعة لإسرائيل وللسلطة الفلسطينية مجهزة ومعدة لاكتشاف المخططات التي تستهدف هجمات أكبر، ولكنها لا تعرف ماذا تفعل بشأن الأعمال اليائسة والانتحارية بشكل عام لأفراد لا يوجد لديهم لا سجل جنائي ولا انتماء سياسي. وكان رد فعل هذه الأجهزة حتى الآن هو اتخاذ إجراءات عقابية جماعية، وهذه لا ينجم عنها سوى إذكاء ألسنة لهيب الثورة وزيادة أعباء الاحتلال على الناس.
لم تستمد هذه الانتفاضة وقودها فقط من حقيقة أن جيلا جديدا من الفلسطينيين رأوا دولتهم الفلسطينية تتلاشى أمام أعينهم، وإنما أيضًا من الفراغ الذي أوجده غياب القيادة الفلسطينية وخاصة في القدس الشرقية.
خشية إسرائيل من تنظيم الدولة “داعش”
ثم يأتي عامل تنظيم الدولة، والتصريح الذي صدر عن زعيمها أبي بكر البغدادي الذي تم أخذه على محمل الجد. وكان البغدادي قد حذر إسرائيل في تسجيل صوتي بما يلي: “إننا نقترب منكم يوما بعد يوم، ولا تظنوا أننا نسيناكم”.
ومضى يقول: “لن تكون فلسطين أرضكم ولا وطنكم، بل ستكون مقبرة لكم. لقد جمعكم الله في فلسطين حتى يقتلكم المسلمون”.
فعلا، لقد بات تنظيم الدولة على الحدود في سوريا وفي سيناء، وذلك بعد أن أطاح الانقلاب بالرئيس التابع للإخوان المسلمين في مصر واحتوى الحصار حركة حماس داخل غزة.
معظم المحللين يقاومون بشدة رؤية السبب والنتيجة في كل هذا الذي يجري، ولا يريدون الإقرار بأن سحق حكومة إسلامية منتخبة في مصر ولد الأكسجين الذي يحتاجه الإسلام التكفيري لكي يتنفس.
تشاطر إسرائيل الحكومات الروسية والمصرية والفرنسية والبريطانية في اعتبار الإسلاموية شرا في كل تجلياتها وأشكالها وفي الاعتقاد بأن الإسلاميين والجهاديين يعملون بالترادف لإنجاز الأهداف نفسها وإقامة الكيان الثيوقراطي نفسه.
لأسباب تتعلق بالأيديولوجيا والعرف والممارسة تعارض إسرائيل إبرام أي صفقة مع حماس معتبرة ذلك خطا أحمر.
يشترك في هذه الرؤية مع الإسرائيليين الإماراتيون الذين يقيمون الآن علاقات غير معلنة مع إسرائيل، ولكن هب أن دعوة البغدادي إلى حمل السلاح وجدت استجابة لدى البعض داخل فلسطين، وهذا أمر لم يعد مستحيلا في المناخ الحالي حيث يتواجد تنظيم الدولة على مقربة من الحدود داخل سوريا وداخل سيناء.
ستسقط جميع الرهانات فيما لو اضطرت إسرائيل إلى اختيار العدو الذي تفضل أن تكون في مواجهته. فمع من يا ترى تفضل أن تتفاوض إسرائيل على تبادل للأسرى في غزة؟ مع حماس أم مع تنظيم الدولة الإسلامية؟ مع حركة مقاومة إسلامية عقلانية أم مع حركة لا عقلانية؟ تصور للحظة لو أن ما تريده إسرائيل في غزة تحقق وانهارت حكومة حماس القائمة هناك الآن، فلصالح من سيكون ذلك؟ لصالح فتح أم لصالح دحلان؟ من غير المحتمل أن يسود في القطاع بعدها نظام علماني قومي. على الأقل بعض الجماعات المؤيدة لحماس ستنضم إلى تنظيم الدولة.
يوجد مؤشران واضحان على أن المحادثات بين تركيا وإسرائيل تمضي قدمًا. أما المؤشر الأول فهو حادث مثير للفضول وقع في تلال كردستان العراق.
أرادت روسيا أن تنشر قوات لها على الأرض حتى تتمكن من هناك من شن هجمات في الموصل، وطلبت إذنا من الزعيم الكردي جلال الطالباني الذي تهيمن جماعته على تلك المنطقة.
تشاور الطالباني مع حلفائه، فلم تعترض الولايات المتحدة الأميركية ولكن إسرائيل هي التي اعترضت.
وأرادت إسرائيل أن تبدي قلقها من أن التدخل الروسي في سوريا إنما يعزز نفوذ إيران في هذا المسرح للمعارك. كما أنها أرادت أن تثبت لتركيا أن لديها نفوذًا في تلك المنطقة.
وأما المؤشر الثاني فهو صيحات الاحتجاج التي خرجت من مصر التي بذلت جهودا كبيرة في عهد السيسي لتشديد الحصار على غزة من خلال تفجير نصف مدينة رفح الحدودية وإغراق الأنفاق بالمياه.
عبرت مصر من خلال مذكرة قدمتها لسفير إسرائيل في القاهرة وعبر القائم بأعمال سفارتها في تل أبيب عن اعتراضها على أي تنازلات إسرائيلية لصالح تركيا في قطاع غزة.
من الواضح أنهم يخشون أن يفقدوا آخر ورقة بأيديهم، ألا وهي الورقة الفلسطينية.
مهما حدث فإن المحادثات الإسرائيلية مع تركيا تشير إلى أن المنطقة في حالة حراك دائم. التحالفات تنفرط بالسهولة نفسها التي تتشكل بها والخصوم يعقدون الصفقات. ما كان قائما في يوم من الأيام قد لا يدوم حتى اليوم الذي يليه. لربما كان نتنياهو يتلمس الطريق بحثا عن حل من نوع آخر.