تتدحرج الرسالة من قمة جبل التخوين والتكفير، كما في خطاب شيوخ السلطة العسكرية، باختلاف وجوههم، من دعاة وزارة الأوقاف، إلى مقاولي السلفية البرهامية، لتستقر عند سفح التخويف والتحذير، كما في خطاب وجوهٍ ورموزٍ ثورية، بتنوّع ألوانها، من يمينيين إلى يساريين، إلى ليبراليين واشتراكيين.
لا فرق هناك بين “حنابلة” في الانسحاق تحت أحذية الدولة العسكرية و”حناجلة” يواصلون، برقاعةٍ منقطعة النظير، مضغ عبارة “يسقط كل من خان”، باعتبارهم الفرقة الوحيدة الناجية من الخطايا، المنزّهة عن العيوب الفكرية والسياسية، لتلتقي كل المجاري في مصب واحد، عنوانه “لا أحد يخرج إلى الميادين والشوارع في عيد الثورة”.
لا تشغل نفسك بما يجري على ألسنة خدم النظام العسكري، سواء كانوا شيوخاً بعمامات، أو راقصات بصاجات، أو من مثقفي وفناني الثلاث ورقات.. فكلٌّ ميسرٌ لما خلق له، وهؤلاء جبلوا على هذه الوضعية، منذ خمسينيات عبد الناصر وستينياته، ثم سبعينيات السادات، فثمانينيات وتسعينيات، وعشرية أولى في ألفية جديدة، لحسني مبارك، وصولاً إلى آخر عنقود الجنرالات عبد الفتاح السيسي.
ما يعنينا، هنا، هو هذه الهمة ممن يفترض أنهم قوى وشخصيات ثورية، يغلفون بضاعة “النهي عن معروف الثورة” بعباراتٍ ذات رنين ضد “منكر قمع السلطة”، فتسمع أصواتاً تنتقد السلطة على حملة الاعتقالات المجنونة التي تطال أصدقاءهم وزملاءهم، بالأساس، لكنها تركّز وتشدّد على أن أحداً ممن اعتقلوا لم يكن ينتوي “النزول” في الخامس والعشرين من يناير، ولا يدعو إلى ذلك أو يحرّض عليه.. بعضهم يقطع بأن “ماحدش هينزلها”، والمقصود ثورة يناير، وكأنه لا يرى، أو لا يريد أن يرى، تلك الحشود التي خرجت أول أمس الجمعة، وتخرج كل أسبوع، في محافظاتٍ عديدة، رافعة شعارات الثورة، داعية للاحتشاد في يوم عيدها، محاولة لاستعادتها.
أصوات أخرى تجنح إلى التضخيم والتهويل في معدلات جنون السلطة القمعية، المتوقعة، في اليوم الموعود، بل وتدعو صراحة للهجرة، فراراً من الجحيم القادم، وكأن هذا الجحيم ليس مستمراً ومستعراً الآن، ومنذ عامين ونصف العام مضت، بلا هوادة.. وكأن الحكومة لم تعتمد سياسة “توصيل البطش إلى المنازل”، فتعتقل وتقتل في غرف النوم، وفي المواصلات العامة، بحيث صار البقاء في المنازل والمكاتب أخطر من ارتياد الفضاء العام.
يُحزنك أن تتحول الثورة على ألسنة صقورها السابقين إلى ملاطم ومرثيات وبكائياتٍ على صديق الشلة المعتقل، أو رفيق الحزب المحبوس، أو زميل المجموعة الممنوع من السفر، ويصير واقع الحال يقول “الثورة تلطم”، بعد أن كان الهتاف والهدف هو “الثورة تحكم”، ليصبح منتهى النضال التوسل، أو التسول من النظام، ألا يستهدف الأصدقاء والرفاق، بمسوغ أنهم ليسوا من “الإخوان”، وليسوا من زنادقة الدعوة إلى التظاهر في ذكرى الثورة.
في العام الماضي، وقبيل الذكرى الرابعة لثورة يناير، كان الشعار المرفوع، من حركة 6 إبريل، وقوى سياسية أخرى، هو “عادوا إلى مقاعدهم فعودوا إلى ميادينكم” الثوار إلى ميادينهم، وذلك في إطار دعوة جموع الشعب المصري، للدفاع عن ثورته، بعيداً عن التصنيفات والتقسيمات.. وفي ذلك الوقت، كانت سلطة القمع والقتل أكثر رسوخاً، وهيمنةً على الوعي المعطوب، حيث الأكاذيب والأوهام القومية، والوعود بالرخاء والسخاء، انفضحت وتساقطت، كما هو حاصل في الوقت الحالي.
والآن، وقبيل الذكرى الخامسة، لم يعودوا إلى مقاعدهم، فقط، بل عادوا إلى جرائمهم ومقاتلهم ومقاصلهم، إذ يبدو النظام أكثر هشاشةً وانكشافاً، وأشد خوفاً ورعباً، بالنظر إلى سلسلة الإجراءات والقرارات المجنونة التي تترى استباقاً للذكرى.. في هذه الوضعية العجيبة من رعب النظام الخائف، يدهشك، ويدفعك إلى الشعور بالأسف، أن وجوهاً ورموزاً ينايرية تنشط في ترويج أسطورة النظام الرهيب المخيف، الذي لا يقوى على التظاهر ضده، أو يتصدّى لجبروته أحد، وبدلاً من أن يدعو إلى التوحد والاحتشاد ضد مجازرهم، تراهم يشتغلون بهمةٍ في جوقة نحيب وعويلٍ من جبروت دولة الخوف، حتى أن منهم من يكاد يردّد “لست من الثوار لكني أحترمهم”، وربما يتهاوى أبعد من ذلك ليكتم ثوريته، مكتفياً بالعيش، متنازلاً عن الحرية والكرامة الإنسانية.