نشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تقريرًا حول العلاقات السعودية الإيرانية، عقِب الأزمة الأخيرة التي اندلعت بعد إعدام الرياض لرجل الدين الشيعي، نمر باقر النمر.
وبلغ التوتر السعودي – الإيراني ذروته باتخاذ السعودية قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في 3 يناير ردًا على مهاجمة سفارتها في طهران وقنصليتها في مشهد وإحراقهما.
أشار التقرير إلى أن الخلافات بين البلدين تاريخية، وتصاعدت خلال السنوات الأخيرة، بسبب ما تراه السعودية من سياسات إيران العدائية تجاهها، ومحاولتها التدخّل في الشؤون الداخلية لدول الخليج العربية، والعمل على زعزعة أمنها واستقرارها.
واختلفت العلاقات السعودية – الإيرانية حاليًا عن النمط الذي كان سائدًا منذ عقود؛ فقد طرأت عليها تغيّرات جذرية؛ ففي عهد الشاه، عرفت العلاقات بين البلدين حالةً من الاستقرار والتعاون، نتجت أساسًا من انتساب الطرفين إلى المعسكر الدولي نفسه الذي كانت تقوده الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، وشعورهما المشترك بتهديد الاتحاد السوفيتي وحلفائه الإقليميين.
ثم توترت تلك العلاقات بشدة بعد إطاحة نظام الشاه وإعلان الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979؛ إذ خرجت إيران من استقطابات الحرب الباردة، وشرعت في محاولة تصدير ثورتها إلى الخارج وإطاحة الأنظمة المحافظة في منطقة الخليج، متهمة إيّاها بالتبعية للغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، ولذلك، كان متوقعًا وقوف السعودية إلى جانب العراق ودعمها له في حرب السنوات الثماني مع إيران “1980-1988”.
العراق
عقب الغزو العراقي للكويت مطلع تسعينيات القرن الماضي، سرى بعض الدفء في العلاقات السعودية – الإيرانية، بما في ذلك التبادل الدبلوماسي بينهما، كما أسهم وصول الإصلاحي محمد خاتمي إلى منصب الرئاسة في إيران ومحاولته الانفتاح على جيرانه والعالم في إحداث تحسّنٍ أكبر، إلا أنّ العلاقات سرعان ما عادت إلى التوتر بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
وازدادت سوءًا بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في صيف 2005؛ حيث قاد أحمدي نجاد، الذي جاء ممثلًا لتيار أصولي متداخلٍ مع نزعةٍ قوميةٍ طاغية، تحولًا في سياسات إيران الإقليمية؛ مستفيدًا من التغيّر الاستراتيجي الكبير الذي طرأ في المنطقة بفعل التدخل العسكري الأميركي وضرب العراق وأفغانستان.
فقد أخذ يروِّج ليس لتصدير الثورة الإسلامية إلى دول الجوار فحسب، كما كان عليه الحال في عهد آية الله الخميني، وإنما أيضًا لإنشاء مشروعٍ إيراني يمتد إلى البحر الأبيض المتوسط مستخدمًا أدوات تصدير الثورة، مثل تسييس الطائفية ودعم ميليشيات وأحزاب طائفية في منطقة لا تعدم القابلية لها.
وأشار التقرير إلى أنه وبعد محاولات إيرانية فاشلة عديدة، بدأت منذ انتصار ثورتها عام 1979، توافرت لإيران بعد الحرب الأميركية على العراق فرصة أفضل لتحقيق طموحاتها في بسط سيطرة كاملة على المشرق العربي وصولًا إلى المتوسط.
الربيع العربي
قبل اندلاع ثورات “الربيع العربي” عام 2011، مثّل العراق نقطة التوتر الأبرز في العلاقات السعودية – الإيرانية؛ إذ ظلّت السعودية تتهم إيران بمحاولات بسط نفوذها على العراق، مستفيدة من قيام الولايات المتحدة بتدمير مؤسسات الدولة العراقية، وعلى رأسها الجيش، وتسليم السلطة لحلفاء طهران من ميليشيات وأحزاب، عِلما أنَّ السعودية ودول الخليج العربية لم تقم بأي عمل لمنع الولايات المتحدة من العدوان غير المبرر على العراق المحاصر واحتلاله، والذي لم يكن يشكل أي تهديد.
يُشير التقرير إلى أن مواقف الطرفين مما يجري في المنطقة كانت محدّدة باعتبارات جيوسياسية واضحة، لا علاقة مباشرة لها بقضايا الشعوب الثائرة ومطالبها، وهي مواقف متناقضة في الجوهر بين السعودية التي تسعى لاستدامة الوضع القائم في المنطقة، وإيران التي لا تفوّت فرصةً لتغييره لمصلحتها بوصفها دولة غير مقتنعة بتركيبة النظام الإقليمي وتوجهات أقطابه.
وأخذت إيران على عاتقها مهمة فرض نفسها ممثلًا للشيعة حول العالم (لا يشبهها في ذلك إلا إسرائيل التي تفرض نفسها ممثلًا لليهود في أنحاء العالم كل مع الفارق بين دولة إقليمية تنتمي للمنطقة حضاريًا وتاريخيًا وبين دولة استعمارية استيطانية).
وبعد سقوط صنعاء بيد الحوثيين في سبتمبر 2014 بدا أنّ إيران استكملت حصار السعودية؛ ففي الشمال غدت إيران تفاخر بتحكّمها بمفاصل القرار في دمشق وبغداد وبيروت، كما أضحت تتحكّم بصنعاء في الجنوب، وتستمر في محاولات زعزعة استقرار بقية دول الخليج (من البحرين إلى الكويت).
اليمن
ما حدث في صنعاء، جاء في الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة تتحدث صراحة عن ضرورة أن تبدأ دول الخليج العربية، وعلى رأسها السعودية، من الآن فصاعدًا بتحمّل القسط الأكبر من أعباء الدفاع عن أمنها ومصالحها؛ لأنّ الحليف الأميركي لم يعد يريد القيام بذلك إلا إذا تعرّضت مصالحه المباشرة للخطر، ونتيجةً لذلك، قامت السعودية بتدخل عسكري في اليمن، والذي يعد الأكبر في تاريخها، بعد أن سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء وأصبحت إيران تهددها من خاصرتها الجنوبية.
من جهة أخرى، أصبح واضحًا بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، أنّ الولايات المتحدة تعمل على أساس إنشاء توازنٍ في القوى بين السعودية وإيران، ليصبح بديلًا من ذلك الذي كان سائدًا بين إيران والعراق قبل أن تحطّمه إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن عام 2003.
وكشف إعدام السعودية لسبعة وأربعين شخصًا متهمين بـ”الإرهاب”، في 2 يناير 2016، بينهم رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر، حجم التوتر الكامن في العلاقات السعودية – الأميركية، وبخاصة فيما يتعلق بالمقاربة الأميركية الجديدة نحو إيران.
فالسعودية مضت في تطبيق أحكام الإعدام متجاهلة تحذيرات أميركية سابقة بأنّ إعدام النمر قد يؤدي إلى تصعيد التوتر الطائفي في المنطقة بشكل قد يعقّد كثيرًا من الملفات الملتهبة في الشرق الأوسط، بما في ذلك الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وفرص إيجاد حلٍ سياسي في سوريا واليمن.
زادت هذه المقاربة الأميركية الجديدة للعلاقة مع إيران مخاوف السعودية، وعمّقت شكوكها في نيات الولايات المتحدة؛ ما دفعها إلى مزيدٍ من التصعيد مع إيران؛ فقررت قطع العلاقات معها بعد أن قام متظاهرون بمهاجمة السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد وإضرام النار فيهما.
واختتم التقرير: على الرغم من التصعيد الأخير في العلاقات السعودية – الإيرانية، فإنّ حدوده تبقى مضبوطة بقيودٍ دولية وإقليمية يصعب تجاوزها، فضلًا عن أنّ الرياض وطهران لا ترغبان في دخول هذه المواجهة أو تحمّل أعبائها، لذلك، من المرجح أن تستمر المواجهة بينهما في ساحات إقليمية عديدة، مثل اليمن، ولكن تبقى أهمها سوريا؛ إذ لا يمكن أن تقبل السعودية بسقوط سوريا في الحضن الإيراني بعد العراق، لأنّ ذلك يعني فعليًا وقوع السعودية نفسها في قبضة النفوذ الإيراني.