يكشف المنظور التاريخي للثورات البعد المحوري للاقتصاد في قيامها، فحينما يفتقد الوضع الاقتصادي للعدالة، فإن أثره في خلق أزمة سياسية جنبا إلى جنب مع الأزمة الاقتصادية أمر واقع لا محالة. وقدا بدا ذلك واضحا في الثورة الفرنسية والثورة البلشفية وغيرها ، بل في ثورات الربيع العربي الذي كان سوء معايش الناس هو عنصر حاسم ورئيس في انفجارها، فكان حرق بوعزيزي نفسه في تونس لصفعه من خلال شرطية حالت بينه وبين اكتساب معيشته ونالت من كرامته، كما وضعت الثورة المصرية العيش ضمن شعارها الذي يتضمن إضافة إلى ذلك الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية.
وفي ظل سرقة ثورات الربيع العربي، خاصة في مصر، من خلال العسكر الذين انقلبوا على أول رئيس منتخب في تاريخ مصر، يبحث الثوار عن شعارهم في ثورة يناير، فيجدون أنه تحول في الواقع إلى فقدان العيش وسيادة الدكتاتورية والظلم الاجتماعي والمهانة، وأن آمالهم تبخرت باستيلاء العسكر على السلطة وما يحملونه من قوة السلاح والبطش العسكرية.
وما زال البعض يرى أن الثورة القادمة ستكون ثورة من أجل الكرامة، بينما يرى آخرون أنها ستكون ثورة جياع، ويرد عليهم الأولون بأنه لا يمكن أن تقوم ثورة جياع في مصر فهو أمر في الخيال، وحجتهم في ذلك أن الشعب المصري يستطيع أن يقضي يومه بأي لقيمات، وأنه دأب على التكيف مع الذل.
وهذا الرأي مردود عليه، فليس من المنطق والعدل أن يوصف كل الشعب المصري أو حتى غالبيته بذلك، ونحن لا ننكر وجود شريحة بهذا الوصف، ولكن السعي في طلب المعيشة وافتقادها قد يخرج المطحونين في ثورة جياع في ظل طبقية السادة من عسكر وقضاء وشرطة وعبيد من عموم الشعب التي يرسخ لها العسكر، فضلا عن الغلاء المتنامي في الأسعار الذي اكتوى به الفقراء، واستخدام الضريبة أداة للجباية لا للعدالة بما يزيد العبء على محدودي الدخل لحساب أهل السلطة والمحظوظين من رجال الأعمال الذين تتكدس ثرواتهم من دم ولحم عموم الشعب المطحون.
إن المتابع للمنظور التاريخي للأزمات في مصر يجد أن قصر أو ارتفاع مياه النيل هي محورها كما ذكر المؤرخ المقريزي الذي عاش في مصر في القرن الرابع عشر الميلادي، والسيسي فرط في مياه النيل وفقا للبند التاسع من اتفاقية المبادئ التي وقعها مع إثيوبيا. كما ذكر المقريزي أسبابا ثلاثة للأزمات في مصر:”السبب الأول: هو أصل الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، كالوزارة والقضاء، ونيابة الإقليم، وولاية الحسبة، وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل. فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤهله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة”. وهذا هو واقع الحال في مصر الآن من إدارة الفساد المنظم، بفساد من يتولى المناصب العامة، وتقديم أهل الولاء على أهل الكفاءة، وفي مقدمة ذلك مؤسسات القضاء، والشرطة، والجيش، والمحليات، والأزهر، والإفتاء، وغيرها، حتى صارت العسكرة عنوان المرحلة، والفساد قربة الولاء.
أما السبب الثاني: فهو “غلاء الأطيان: وذلك أن قوما ترقوا في خدمة الأمراء يتولون إليهم بما جبوا من الأموال … فتعدوا إلى الأراضي الجارية في إقطاعات الأمراء، وأحضروا مستأجريها من الفلاحين، وزادوا في مقادير الأجر، وجعلوا الزيادة ديدنهم كل عام. .. وكانت الغلة التي تتحصل من ذلك عظيمة زائدة القدر على أرباب الزراعة سيما في الأرض منذ كثرت هذه المظالم .. وعجز الكثير من أرباب الأراضي عن زرعها لغلو البذر وقلة المزارعين. وقد أشرف الإقليم أجل هذا على البوار والمدار”. وهذا السبب يماثله الآن توزيع الأراضي على المحاسيب والكبار ومنع المزارعين الصغار من الدعم اللازم لاستمرار زراعاتهم، وتحميلهم بقروض وضرائب لا قبل لهم بها.
أما السبب الثالث: فهو “رواج الفلوس بخروج النقود عن وظيفتها كأثمان للمبيعات وقيما للأعمال”. وهو ما يغذي وقود التضخم ومن ثم الارتفاع في الأسعار، وهو أمر ملموس الآن بطباعة العسكر المتنامية للنقود حتى بلغت الزيادة المطبوعة من “البنكنوت” خلال شهر سبتمبر 2015 فقط 9.3 مليار جنيه، فضلا عن التوسع في الاقتراض الذي أصبح سياسة ممنهجة للسيسي بالغدو والآصال، فقد وصلت الديون الداخلية في سبتمبر 2015 إلى 2.3 تريليون جنيه، وكذلك الديون الخارجية في ذات التاريخ إلى 46.1 مليار، دون أن يتضمن رقم الدين الخارجي الودائع الخليجية التي تقدر بـ 12 مليار دولار، والشريحة الأولى من قرض البنك الدولي والتي تقدر بمليار دولار ضمن قرض 3 مليار دولار، والشريحة الأولى من بنك التنمية الأفريقي التي تقدر بنصف مليار دولار ضمن قرض 1.5 مليار دولار، فضلا عن الحصول على قرض من بنك التنمية الصيني بمليار دولار، والتوصل لاقتراض 10 مليار دولار من الصناديق العربية، ضف إلى ذلك صفقات الرافال 5.3 مليار يورو، وسيمنس 8 مليار يورو، وعربيات سكك حديد المجر 900 مليون يورو، ومشروع الضبعة النووي 26 مليار دولار.
إن ثورة الجياع ليست بعيدة عن المجتمع المصري في ظل المؤشرات الاقتصادية السيئة في عهد العسكر، والتي يتوقع لها المزيد من الأسوأ، خاصة وأن الحكومة تتجه بقوة نحو التخلص من الموظفين المدنيين لحساب زيادة أعداد الجيش والشرطة، ومن ثم المزيد من ارتفاع معدلات البطالة المرتفعة في الأساس، فضلا عن رفع الدعم، والارتفاع المتنامي في الأسعار وفي مقدمتها أسعار الغذاء والكهرباء والمياه والغاز والبنزين والسولار، والانحياز للطبقية البغيضة، وتحميل الكادحين بمزيد من الضرائب، ولن يكون آخرها ضريبة القيمة المضافة التي سيتم إقرارها خلال أيام والتي ستقضي على ما تبقى من طبقة متوسطة.
لقد عرفت مصر أول ثورة جياع على مستوى العالم في العصر الفرعوني ضد الملك “بيبي الثاني”، ذلك الملك الذي حكم مصر لأكثر من 96 عاما، وساءت في عهده الأحوال الاقتصادية، فامتنع الناس عن الذهاب للحقول ودفع الضرائب، وتوقفت التجارة مع البلاد المحيطة، بل وهجم الناس على مخازن الحكومة، واعتدوا على مقابر الموتى، وصبوا غضبهم على قصور الأغنياء، وانهارت الحكومة المركزية، وظهرت مقولات مثل “الأرض لمن يحرثها”، حتى اضطر رجال الدين ومَنْ تبقى من الأغنياء للهجرة، وكانت تلك الثورة نهاية لحكم الملك بيبي الثاني.
ولما جاء الفتح الإسلامي لمصر، كان العامل المشترك لثورات الجياع هو إعلان الناس ثورتهم واحتجاجهم من خلال المسجد العتيق مسجد عمرو بن العاص، رضي الله عنه، وقد كشف المقريزي عن الكثير من ردود أفعال الناس تجاه الغلاء وثورتهم من أجل الجوع، ففي المحرم عام 338هـ وقع غلاء في عهد أبو القاسم وأتوجور بن الإخشيد فثارت عليه الرعية ومنعوه من صلاة العتمة (العشاء) في الجامع العتيق. وفي الدولة الإخشيدية أيضا عظم الغلاء في العام 343هـ حتى بيع القمح كل ويبتين ونصف بدينار ثم طلب فلم يوجد، وثارت الرعية وكسروا منبر الجامع بمصر. ثم شهد العام 352هـ غلاء استمر 9 سنين في عهد علي بن الإخشيد، وفي عام 353هـ عظم البلاء وانتفضت الأعمال لكثرة الفتن، ونهبت الضياع والغلال، وماج الناس في مصر بسبب السعر (القمح) فدخلوا الجامع العتيق بالفسطاط في يوم جمعة، وازدحموا عند المحراب فمات رجل وامرأة في الزحام، ولم تصل الجمعة يومئذ. وفي عام 357هـ حينما مات كافور الإخشيدي كثر الاضطراب، وتعددت الفتن، وكانت حروب كثيرة بين الجند والأمراء قتل فيها خلق كثير، وانتهبت أسواق البلد، وأحرقت مواضع عديدة، فاشتد خوف الناس، وضاعت أموالهم، وتغيرت نياتهم، وارتفع السعر، وتعذر وجود الأقوات حتى بيع القمح كل ويبة بدينار، واختلف العسكر، فلحق الكثير منهم بالحسن بن عبد الله بن طغج، وكاتب الكثير منهم المعز لدين الله الفاطمي.
كما كانت الشدة المستنصرية مثالا لثورة الجياع وبداية النهاية للدولة الفاطمية، فقد ابتدأت الشدة المستنصرية في العام 475هـ، “فنزع السعر، وتزايد الغلاء، وأعقب الوباء، حتى تعطلت الأراضي من الزراعة وشمل الخوف، وخيفت السبل برا وبحرا، واستولى الجوع لعدم القوت، وبيع الأردب من القمح بثمانين دينارا، وأكلت الكلاب والقطط حتى قلّت الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وتحرز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعها سلب وحبال فيها كلاليب، فإذا مر بهم أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه.. وجاء الوزير يوما على بغلته فأكلتها العامة فشنق طائفة منهم فاجتمع عليهم النساء فأكلوهم. ثم آل الأمر إلى أن باع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح .. وغيره.. وصار يجلس على حصير وتعطلت دواوينه؛ وذهب وقاره… حتى احتاج المستنصر فباع حلية قبور آبائه.. وكانت الشريفة بنت صاحب السبيل تبعث إليه في كل يوم فتيت من جملة ما كان لها من البر والصدقات، حتى أنفقت مالها كله، وكان يجل عن الإحصاء، في سبيل البر، ولم يكن للمستنصر قوت سوى ما كانت تبعث به إليه، وهو مرة واحدة في اليوم”.
ومن غريب ما وقع أن امرأة من أرباب البيوتات أخذت عقدا لها قيمته ألف دينار، وعرضته على جماعة في أن يعطوها به دقيقا. وكل يعتذر إليها ويدفعها عن نفسه إلى أن يرحمها بعض الناس وباعها به تليس دقيق بمصر. وكانت تسكن بالقاهرة. فلما أخذته أعطت بعضه لمن يحميها من النهاية في الطريق. فلما وصلت باب زويلة تسلمته من الحماة له ومشت قليلا. فتكاثر الناس عليها وانتهبوه نهبا. فأخذت هي أيضا مع الناس من الدقيق ملء يديها. ثم عجنته وشوته. فلما صار قرصة أخذتها معها، وتوصلت إلى أحد أبواب القصر، ووقفت على مكان مرتفع، رفعت القرصة على يديها بحيث يراها الناس، ونادت بأعلى صوتها: “يا أهل القاهرة، ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت على هذه القرصة بألف دينار”، فلما علم المستنصر بذلك استاء وأحضر الوالي وتوعده؛ وأقسم له بالله إن لم يظهر الخبز في الأسواق وينحل السعر، ضرب رقبته وانتهب ماله.
فهذه المرأة خرجت تعلن عن رأيها بوسيلة من وسائل التعبير -التي ما أكثرها في واقعنا المعاصر بفضل ما نحن فيه من تقنية- والمستصر يومها لم يكن يأكل ويعيش إلا كما يأكل عموم الشعب على ما توفر من البر والصدقات، ولم يفعل كما يفعل السيسي الآن الذي يريد للشعب أن يجوع وهو قد وصل الشبع عنده وحاشيته منتهاه.
إن الظلم الاجتماعي قنبلة موقوتة لابد لها أن تنفجر إن عاجلا أو آجلا، وثورة الجياع في مصر مقدماتها على الأبواب، وهنا يظهر دور النخبة الثورية المخلصة لمصر بتفعيل ثورة الكرامة لتهذب ثورة الجياع، وتحريك الكتلة الحرجة للخروج دفاعا عن حقوقها، مع وضع الآليات العملية لحفظ المؤسسات من مساوئ فوضى ثورة الجياع، ولعل نموذج اللجان الشعبية في تونس ومصر كان نموذجا مشرفا وإن جاء لا إراديا دون تخطيط، فكيف بالتخطيط لذلك؟ إن التخطيط لهذا الأمر بات عنصرا مهما وحاسما حتى تحقق الثورة أغراضها، وتقضي على استبداد العسكر بالسلطة والثروة، ويعود للمواطن حريته، ويجد حد الكفاية من عيشه، وتحفظ له كرامته، وينظر بأم عينيه فيجد العدالة الاجتماعية هي مظلته.