تمتلك حكاية الحفارين السبعة الذين استشهدوا في بطن النفق أثناء المنخفض الجوي في قطاع غزة، طاقة هائلة على استثارة الخيال، وتحفيز الأحاسيس الخفية لمحاولة معايشة لحظات الشهادة المركبة، جهادا وغرقا واختناقا، ويمكن للمخيلة أن تستفيد من اللحظات الفعلية؛ لدمج المحيط الخارجي بطقسه العاصف وأجوائه الماطرة بالحدث الأساسي داخل النفق، بأبطاله، بأنفاسهم، وذكرهم ربهم، وخفقان قلوبهم، وذكريات اللحظات الأخيرة، وفي حال كانت هذه المخيلة سنيمائية، فإن كل ذكرى من ذكريات الأبطال السبعة وعودتها إلى المسار الذي انتهى بصاحبها شهيدا في بطن النفق، ستكون فيضا من المعنى الذي يملأ أركان النفس التي تتلمس الحكايات المهيبة من قصة مكتوبة أو مشهد مصور.
لكن هذه الحكاية أكثر تكثيفا للمعاني واختزانا للدلالات، ابتداء من هذا الإنسان الصوفي الذي يتخذ من باطن الأرض معبدا له، وساحة مبتكرة للجهاد، يفنى فيها تماما، في زمن تصاعدت فيه النزعات الفردانية عند البشر، وتعاظم الدوران حول الذات التي صارت المبتدأ والمنتهى، وبدا العمل الرسالي وكأنه قد تلقى الضربة القاضية مع الهزيمة الآنية للثورات العربية وفشل الحركة الإسلامية، حتى تمزقت هذه الأخيرة في أكثر من قطر عربي، وفقد منتسبوها اليقين، وهام كثير من أفرادها بحثا عن ذواتهم، أو عن فرصهم الضائعة في هذه الحياة الدنيا.
لكن ذلك المقاتل الصوفي ظل ينكر ذاته، ويستفيض سعادته بأظافره، فتفيض أكثر كلما حفر أكثر، وتفيض أكثر كلما جهله الناس أكثر، حتى أنّ وجهه لا يرفع عنه اللثام إلا بعد الشهادة، وكأنّها الخاتمة الأبهى للصمت الطويل.
يمكن لنا الآن أن نحاول التخيل مجددا، ونتساءل عن حالنا، أو حال الدنيا كلها، لو خلت من مثل هؤلاء، وكان أهلها من الثرثارين فقط، أو من الطوّافين حول ذواتهم فقط!
لكن ماذا فعل هذا الصمت الطويل، وتلك الأظافر التي لم تكلّ ولم تملّ؟! هذه حكاية أخرى لها دلالاتها الأخرى أيضا. فالنفق هو الحل الضرورة الذي أبدعه الوعي المقاوم في قطاع غزة، وجعله حلا أساسيا تستند إليه العملية الجهادية في قطاع غزة في كل مراحلها، ابتداء من تهريب السلاح وإدخاله إلى القطاع المحاصر، مرورا بمراحل كثيرة لا يبدو أن ثمة نهاية لها، فهو حل لمشكلة التخزين في شريط ساحلي ضيق ومكشوف للعدو الذي يملك خبرة أمنية كبيرة بتفاصيله كافة، وهو شبكة اتصالات وتنقل معقدة وواسعة ومتعددة الأغراض، بما يكبح الآلة الاستخباراتية الجبارة التي يملكها العدو، وبما يخفي المجاهدين بأعمالهم المتنوعة من حركة وتواصل، وتدريب وكمون واستعداد، وبما يخفي سلاحهم حين تصنيعه، أو في ساعة المعركة كأن يستخدم النفق غطاء للقاذفات ومنصات الصواريخ، وهو سلاح هجومي متقدم يغوص بالمجاهدين إلى عمق العدو، وإذا كان هذا السلاح قد ظهرت نتائجه الهجومية مثلا في عملية “ناحال عوز” في حرب العصف المأكول، وظهرت نتائجه الدفاعية في معركة الشجاعية الشهيرة في الحرب الأخيرة، وفي أسر الجنود، فإن بعض ما انكشف من عمل “حماس” على تقنية الأنفاق يشير إلى أن استخداماته الهجومية ستكون أكبر وأبعد مدى.
هذه القفزة الهائلة التي أبدعها الوعي المقاوم، ونهض بها على التطوير المستمر للأنفاق، هي نتاج عملية تراكمية طويلة بدأت على الأقل منذ انتفاضة الأقصى، والتي نُفّذ أثناءها عدد من العمليات الهامة بواسطة الأنفاق، كانت تعتمد على الغوص إلى المواقع العسكرية عبر النفق، وزراعة الألغام أسفل تلك المواقع.
ولكن الأهم من تلك الاستخدامات الأولية، هو الاستمرار في المراكمة على هذه التجربة، بما يعكس إيمانا عميقا بالمقاومة، وإصرارا جبارا على حراستها وتطويرها، فإذا كانت أنفاق المقاومة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة قد بدأت مع الانتفاضة الثانية، فإن المقارنة بين واقع المقاومة في كل من غزة والضفة من بعد انتفاضة الأقصى ثم الانقسام، وحتى بعد أخذ الظروف الموضوعية بعين الاعتبار، تبين النتائج الناجمة عن اختلاف السياسات ما بين القوتين الحاكمتين في الضفة وغزة، ويزيد ذلك تأكيدا استشهاد الشباب السبعة في قلب النفق أثناء المنخفض الجوي.
وإذن يمكن لنا أن نتخيل مجددا حالنا لو خلت بلادنا من مؤمنين بالمقاومة على هذا النحو، وحراس لها، وقائمين عليها، حتى أن لحظة واحدة لا تمر دون عمل مقاوم، حراسة، استعداد، وتطوير، وحفر. فما أكثر الحكايات التي تنفتح من حكاية الحفارين السبعة، إيمانية، وجهادية، وسياسية.