الشعب يريد.. كان ذلك عنوان الهتافات التى بدأت خافتةً في ميدان التحرير، وبعض ميادين مصر، في يوم 25 يناير 2011. وكانت البداية إعلانًا أن الشعب يريد “عيشًا.. وحرية.. وعدالة اجتماعية”. هتاف مجرد يعبر عن تطلعات عامة للناس، يخاطبون بها السلطة، ويصرخون في وجهها. ثم تطور الأمر بسرعة مذهلة، وبشكل دراماتيكي في بضعة أيام، وأصبح الشعب يريد إسقاط النظام، والشعب يريد إسقاط الرئيس، والشعب يريد رحيل الرئيس، و.. ارحل يا مبارك..
وعلى مدى 18 يومًا، امتلأت الميادين بلافتات تحمل شعار “ارحل”. وطغى ذلك الشعار على المشهد، حتى بدا الأمر وكأن رحيل حسني مبارك الغاية والمراد. والتقط النظام ودولته الخيط، وتم سحب البساط من أسفل الجماهير الثائرة باسم الشعب بمهارة وحنكة. وبعد سلسلةٍ من المناورات والتحركات، كان أهمها الانفلات الأمني يوم 28 يناير في “جمعة الغضب”، والذي شمل كل أنحاء مصر، حتى المناطق التي كانت بعيدة عن مناطق الحراك الثوري؟ وبالتزامن مع ذلك، تم تكليف القوات المسلحة بالنزول إلى الشوارع والميادين. وظهر شعار جديد إلى جوار شعارات الشعب يريد، هو “الجيش والشعب إيد واحدة”.
أعقبت ذلك مناورة موقعة الجمل يوم 2 فبراير، والتي تمت فيها محاولة تصفية الموقف بواسطة “المواطنين الشرفاء”، من رجال النظام وبلطجيته، والذين تم تحريكهم عن بعد، بواسطة كوادر الحزب الوطني، وتمويل رجال أعمال مبارك. ثم كانت المناورة الأخيرة يوم 10 فبراير، عندما حاول النظام تقديم حلٍّ وسط، يقوم فيه مبارك بتفويض نائبه، الراحل عمر سليمان، ببعض اختصاصاته، وتكليفه بإجراء تعديلات دستورية، وإصلاحاتٍ سياسية، بالتعاون مع القوى السياسية، إلى حين انتهاء فترة ولاية مبارك بعد ستة شهور، ولم تلق تلك المناورات القبول من جماهير الميدان، والذي سيطر عليها تماماً شعار “ارحل”.
عند ذلك الحد، جاءت ضربة النظام الحاسمة، في يوم 11 فبراير، وهو اليوم الثامن عشر لانطلاق حركة الجماهير، عندما خرج عليها النائب، عمر سليمان في بيان قصير مسجل، تضمن تلبية المطلب الذي انتهت إليه الجماهير، أو الذي تم توجيه الجماهير بشكل غير مباشر إليه، وهو رحيل مبارك، وتم إخراج المشهد، وكأن ثورة الشعب انتصرت انتصارًا حاسمًا. وهللت الجماهير، وانصرفت من الميدان، لتعود في صباح اليوم التالي. ولكن، لتقوم بحملة نظافة وتجميل.
لم يلتفت أحد إلى ما جاء في البيان، الذي ألقاه عمر سليمان، على الرغم من قِصره. وتوقف الجميع عند جملة أن مبارك قرر التخلي عن منصب رئيس الجمهورية، بينما أن ما أعقبها كان شديد الخطورة، وما كان يجب أن يمر، وهو قرار مبارك تكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، حيث ضرب مبارك عرض الحائط بالدستور، وتصرف في ما لا يملك التصرف فيه، عندما قرّر تسليم السلطة إلى قيادة القوات المسلحة، وكأن الدولة إرث، له حق التصرف فيه.
كانت تلك هي اللحظة الفارقة في المسيرة التي انطلقت في 25 يناير، والتي تلاقت فيها كل التوجهات، تحت الشعارات نفسها، التي توحدت في مطلب واحد، هو ارحل، وها هو قد رحل، فماذا بعد؟
اختلف الجميع حول إجابة ذلك السؤال، هل يتم الاكتفاء برحيل مبارك وأسرته وأركان نظامه، وانتظار ما سيطرحه المجلس الأعلى للقوات المسلحة من رؤيةٍ للمستقبل في إطار أن الجيش والشعب يد واحدة؟ أم يستمر المسار الثوري لإسقاط النظام الذي بدا وكأنه تصدّع؟ وتحول الرفاق إلى فرقاء، وتعددت المسارات، وتنوعت الشعارات، وانقسمت الجماعات.
وفي النهاية، انكسر الجميع في مواجهة النظام الذي حافظ على تماسكه، وقام بتطوير نفسه، واستعاد سلطته، وأحكم قبضته على كل مفاصل الدولة، وأحاط نفسه بشعبٍ، يهتف له، ويرقص ويغني طربًا لكل قراراته!. لم يكن الأمر سهلًا ولا سلسًا، ففي سبيل ذلك، أريقت دماء الآلاف في الميادين وعلى الطرقات، وهو أمر غير مسبوق للمصريين. واختفى خلف جدران السجون عشرات الآلاف غيرهم. وأصبح هناك شعب آخر يرفض النظام، ويسعى إلى مقاومته.
وهكذا، أصبح لدينا في مصر شعبان، شعب يرى في “25 يناير” شرًا مستطيرًا، وشعب يرى في “25 يناير” خيرًا كثيرًا، وكل منهما يعتقد أنه الشعب الأصيل، والآخر مجرد فئة ضالة، أو عميلة، أو انتهازية، أو إرهابية، أو، وعلى أحسن الأحوال، فئة مخدوعة.
وبعد خمس سنوات، نجد أنفسنا، ونحن، في هذا الموقف، أمام عدة أسئلة مشروعة، بل واجبة وشديدة الأهمية. في مقدمتها، ماذا بقي من “25 يناير”؟ وهل الثورة مستمرة؟ وهل لا يزال الشعب يريد؟ وماذا يريد بالضبط؟
في ما يتعلق بالسؤال الأول، علينا بداية أن نتفق على ماهية “25 يناير”. وبعيدًا عن حديث الشر والخير، فإن ما جرى كان حدثًا عظيمًا في تاريخ الشعب المصري، عندما تحركت طلائعه الشابة، خارج كل الأطر الأيديولوجية والتنظيمية، تطالب بالحرية والعدالة والكرامة. والتفت الجماهير حول تلك الطلائع، وعلى الرغم مما آلت إليه الأحداث، فإن تلك الجماهير تمكنت من فرض إرادتها، والتي تمثلت في رحيل رأس النظام، وإن كان قد تم الالتفاف على تلك الإرادة بعد ذلك. ولكن، يبقى الدرس الأهم في وجدان الأجيال، خصوصًا الشباب، أن الشعب إذا أراد وأصر على مطالبه، فإنه حتماً سيفرض إرادته.
أما عن سؤال ما إذا كانت الثورة مستمرة، فإذا كنا نتحدث عن خروج الجماهير نفسها، بتنويعاتها نفسها، وبشعاراتها نفسها، وزخمها، وتوحدها نفسه، ومطالبها نفسها، ووسائلها وأساليبها نفسها، على اعتبار أن تلك الجماهير تم خداعها، وأنه لا شيء من مطالبها قد تحقق، وبالتالي، عليها أن تُعيد الكرة على أن لا تقع في الأخطاء نفسها. بمعنى آخر، وبلغة السينما، تتم إعادة المشهد على طريقة (كلاكيت تاني مرة). بالقطع، هذا غير ممكن، لأن الثورات لا تُستنسخ. ولكن، تبقى روح الثورة مستمرة في وجدان الناس، وتستوعب الجماهير دروسها، وتحمل أجيال جديدة رسالتها. بهذا المفهوم، ستبقى الثورة مستمرة، ما بقيت أهدافها مغيبة، وما بقيت المظالم قائمة، وما بقيت الشعوب حية، مهما كانت قوة الثورة المضادة، لأن الشعوب لا تهزمها القوة أيًا كانت.
يبقى السؤال الأخير، والأهم: هل لا يزال الشعب يريد؟ وماذا يريد بالضبط؟ نعم، لا يزال الشعب يريد. ولكن، علينا أن نعرف ما هو المطلب الذي يتفق عليه كل الشعب. من يقف مع النظام، ومن يرفض النظام، بعد تجربة السنوات الخمس الفارقة، أو التي يجب أن تكون فارقةً في تاريخ هذه الأمة. قد يكون مهماً أن نحدّد، أولًا، ما الذي لا يريده الشعب؟ الشعب قطعاً لا يريد مزيدًا من الشعارات، سواء القديمة أو الجديدة. ولكن، على الشعب بجناحيه أن يدرك أن الحل يكمن في شيء واحد، هو الديمقراطية. فهل يتوحد هتاف الشعب ليكون “الشعب يريد .. تحالفًا وطنيًا من أجل الديمقراطية”؟