شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

الثوابت والمتغيرات … حول منهج التغيير عند جماعة الإخوان المسلمين

الثوابت والمتغيرات … حول منهج التغيير عند جماعة الإخوان المسلمين
سعى «حسن البنا» لتغيير سياسي كبير، وليس مجرد الاكتفاء بالوعظ الديني ومحاربة الانحرافات الأخلاقية. لكنّ تغيير الأوضاع السياسية من وجهة نظره لم يكن ممكنا دون البدء بتغيير أوضاع المجتمع نفسه، باعتبار أن النظام السياسي (الحكم)

سعى «حسن البنا» لتغيير سياسي كبير، وليس مجرد الاكتفاء بالوعظ الديني ومحاربة الانحرافات الأخلاقية. لكنّ تغيير الأوضاع السياسية من وجهة نظره لم يكن ممكنا دون البدء بتغيير أوضاع المجتمع نفسه، باعتبار أن النظام السياسي (الحكم) هو نتيجة طبيعية لأوضاع المجتمع. لم يكن «البنا» شديد الوضوح في تحديد خطواته التالية دائما، وهو ما وضع دائما احتمالات واستنتاجات تتعلق بحقيقة رؤيته لعملية التغيير. 

عندما أسس جميعة الإخوان المسلمين عام 1928، كان تركيز «البنا» الرئيسي موجها حصرا للجتمع وتجنب تماما أي مشاركة سياسية ولو على سبيل النقاش أو التنظير. قرر القانون الأول (اللائحة الداخلية) لجمعية الإخوان المسلمين الصادر في الإسماعيلية عام 1930 أن الجمعية لا شأن لها بالعمل السياسي، حيث ذكرت المادة الثانية إن «هذه الجمعية لا تتعرض للشؤون السياسية أيا كانت»، وشددت المادة 15 على عدم التعرض للشؤون السياسية أثناء اجتماعات الجمعية. والأغرب، أن المادة 42 التي تحدد آلية تعديل اللائحة، منعت نهائيا تغيير بعض المواد، من بينها المادة الثانية التي أشرنا إليها والتي تمنع على الجمعية المشاركة في العمل السياسي.

اقتصرت أهداف الجمعية على الجوانب الاجتماعية والأخلاقية، مثل نشر التعاليم الإسلامية ومحاربة الأمية ونشر الوعي الصحي خاصة في القرى ومحاربة الآفات الاجتماعية مثل المخدرات والبغاء، ومعالجة الأزمات الاقتصادية من خلال الوعظ والإرشاد. ومن ثم، تركزت أنشطة الجماعة في افتتاح مدارس وإلقاء المحاضرات وإنشاء مقرات للجمعية في مختلف المحافظات.

لاحقا اختلفت الأولويات، وأعلن «حسن البنا» في افتتاحية العدد الأول من «مجلة النذير»، مايو/أيار 1938، صراحة: «إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزبا ولا هيئة كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك.. أما اليوم ستخاصمون هؤلاء جميعا في الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا مقاليد الإسلام منهاجا يسيرون عليه ويعملون له .. فإما ولاء وإما عداء».

أي أن ما كان من ”الثوابت“ أصبح متغيرا، وما فهمه البعض كـ”عقيدة“ للجمعية بدا واضحا أنه استراتيجية مرحلية لا أكثر. خلال السنوات التالية وحتى استشهاده، تقدم «البنا» خطوات مهمة تجاه حيازة نفوذ سياسي غير قليل، وهو ما يظهر في سعيه لتكوين مجموعات موالية للجماعة داخل الجيش، والشرطة، والقضاء، بالإضافة إلى تكوين الجهاز الخاص أوائل الأربعينيات.

هل معنى هذا أن الجماعة كانت تخطط لحيازة أدوات تغيير سياسي واسعة بعد تكوين قاعدة اجتماعية يمكنها تقبل صعود الجماعة للسلطة وتوفر لها الدعم الأساسي في البداية؟ ليس هذا من المستبعد، خاصة وأن ”مراحل الدعوة“ التي حددها «البنا» تمثلت في: التعريف بالفكرة والتبشير بها – اختيار الأنصار والأعضاء وتكوين القاعدة الصلبة للتنظيم – التنفيذ. لم يوضح «حسن البنا» المقصود بالتنفيذ، وهو ما يزيد الغموض حول خطواته التالية خاصة وأنه رفض بحسم العمل الحزبي، كما لم يتحمس للثورات الطبقية التي تقوم على إقصاء طبقات اجتماعية لصالح طبقات أخرى، لكنه أيضا لم يرفض مبدأ الثورة على الحكومة التي لا تستجيب لتطلعات الشعب، حيث أكد في «رسالة التعاليم» أن الحكومة التي لا يجدي معها النصح والإرشاد يجدي معها الخلع والإبعاد.

مع التأسيس الثاني حافظت الجماعة – فقط – على أدبيات «البنا» التي تؤمن بأهمية التغيير الاجتماعي، وبأن وجود قاعدة اجتماعية واسعة تؤمن بأفكاره هو السبيل الوحيد لتغيير النظام السياسي القائم وبناء نظام سياسي يطبق هذه الأفكار. أصبحت فكرة أن الإخوان لا يؤمنون بالثورة راسخة، وتكونت قناعة أنه لا جدوى من الصدام مع الدولة بعد التجربة الناصرية المؤلمة. كانت الجماعة دائما على استعداد لتقديم تنازلات سياسية مقابل مزيد من الحرية في ممارسة الأنشطة الاجتماعية والدعوية باعتبار أنها الاستثمار اللازم والمبدئي لإحداث أي تحول سياسي في المستقبل. خلال التأسيس الثاني ستتخلى الجماعة عما اعتبر أيضا في مرحلة سابقة من ”الثوابت“ وهو رفض العمل الحزبي التنافسي.

في العام 2004 أعلن المرشد العام السابق «محمد مهدي عاكف» أن الجماعة بصدد مرحلة جديدة هي ”الانفتاح على المجتمع“، وهو ما اعتبر داخليا مؤشرا حاسما على  تقدم الجماعة في سلم الأولويات النظري الذي وضعه «حسن البنا» (الفرد – الأسرة – المجتمع – الدولة – أستاذية العالم) وانعكس ذلك في مشاركة سياسية تنافسية واسعة وانخراط غير مسبوق في العمل العام عموما.

لا أعتقد أن «االبنا» رحمه الله وضع هذه المسارات كــ”مراحل“ تحدد تراتبية التنفيذ، بمعنى أن ننتهي من الفرد ثم نتجه لبناء الأسرة …..الخ؛ وإلا فالرجل لم يغب عن المجتمع منذ اليوم الأول لبدء العمل الإخواني. فالتداخل بين المراحل والتأثير المتبادل بينها لا تخطئه عين؛ الفرد لا يمكن تغييره دون تغيير المجتمع – البيئة المؤثرة فيه – والمجتمع لن تغيره قناعات أفراد وإن كانو كتلة عددية، طالما أن الدولة الحديثة – خاصة في مجتمعات غير ديمقراطية – مهيمنة على مفاصل الحياة العام. هل من الممكن عزل الفرد عن المجتمع وتكوين مجتمع موازي؟ حدث هذا وأنتج تربية مغلقة أضرت بالفرد والمجتمع على حد سواء.

مع هذا، حدث إصرار غريب على التعامل مع ”المسارات“ كــ”مراحل محددة“، لا يجب تجاوز مرحلة منها دون استكمال المرحلة التي تسبقها، أو على الأقل تحقيق نجاح معتبر فيها. ما مقدار هذا النجاح؟ وكيف يمكن قياسه؟ لا أحد يدري.

هل تغير هذا بعد الثورة؟ أزعم أنه تغير بنسبة كبيرة. ثمة شعور متنامي أنه من غير المجدي توقع أن تغيير نظام الحكم يتطلب تغييرا مجتمعيا واسعا، لأنها عملية لن تنتهي ولا يمكن قياسها، خاصة وأن الرأي العام بات من السهل التلاعب به من خلال أجهزة الدولة المركزية والأيديولوجية (حسب ما يصفها ألتوسير)، أي أن التغيير القاعدي في ظل مركزية الدولة الحديثة وهيمنتها على المجال العام وعلى مؤسسات التعليم والإعلام والمؤسسة الدينية الرسمية، كل هذا يجعل من قدرة أي تنظيم اجتماعي مهما بلغ انتشاره على التعبئة الاجتماعية في مواجهة أجهزة الدولة محدودة جدا، وهو ما لمسه الإخوان بصورة حاسمة خلال فترة حكم الرئيس «مرسي» حيث عجزت الجماعة على مجاراة أجهزة الإعلام، وتحكم الدولة في البيروقراطية، بل واستطاعات الدولة أن تؤثر على جمهور الإخوان القريب الذي يتلقى منذ سنوات دعاية الجماعة ورسائلها السياسية والدعوية على حد سواء.

علاوة على ذلك، فقد أثبتت الثورة أن ثمة آليات مدنية قد تكون أجدى في مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي لا تسمح للمؤسسات الاجتماعية أو السياسية عموما بالتمدد وامتلاك أدوات تعبئة وتأثير على الرأي العام تهدد السلطة القائمة. بصورة ما يمكن القول أن ثمة تيار داخل الإخوان بات أكثر اقتناعا أنه من غير الممكن تحقيق أهداف ”ثورية“ مثل تغيير بنية النظام السياسي والطبقة الحاكمة وإعادة توزيع القوة بين الدولة والمجتمع، لا يمكن تحقيق ذلك بوسائل ”إصلاحية متدرجة“ كالتي اقترحها «حسن البنا» – أو للدقة التي فُهِم أنه اقترحها.

تستدعي هذه الملاحظات التعامل بحذر مع ما يعتقد دائما أنه من ”ثواب الجماعة“؛ وأن يكون ثمة فصل واضح بين الاستراتيجيات التي يمكن تغييرها وتطويرها وبين ما هو ”ثابت“. التوسع في تحديد الثوابت يحجر على حاجة الجماعة الدائمة للاجتهاد والتجديد، ويضع قيودا متوهمة تحد من خياراتها وتفقدها المرونة اللازمة لمواكبة التحديات الراهنة، كما أنه يتجاهل الفرق الهائل بين الواقع الذي استجاب له «حسن البنا» واجتهد في حدوده، وبين واقع مصر والأمة عموما اليوم. 

وهو ما يتطلب تفصيل في مقال لاحق. 

والله أعلم

 



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023