مع أنه لا ينبغي أن يكون ثمة ما يفاجئ في الأكاذيب أو الإجراءات العدوانية التي يبتدعها نظام عبدالفتاح السياسي ضد الشعب الفلسطيني عمومًا، وضد قطاع غزة ومقاومته وفي طليعتها “حماس” خصوصًا، إلا أن اتهام الحركة بالمشاركة في اغتيال النائب العام المصري السابق هشام بركات بدا مفاجئًا للبعض، بما في ذلك بعض الأوساط المقربة من حماس، لا سيما مع تراجع وتيرة الهجوم الإعلامي المصري على الحركة، وكفّ نظام السيسي عن توجيه اتهامات مباشرة لها منذ فترة، ومع ما أشيع عن إجراءات تدرسها حماس لنزع ذرائع العداء المفترضة التي يتقنّع بها نظام السيسي، أو التي يحتجّ بها البعض من مغفلين أو من خبثاء، إجراءات من قبيل إعلان استقلال الحركة عن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، وهذا بصرف النظر عن صوابية هكذا إجراء، ولكن الحديث عن حجم مساهمته في صياغة موقف نظام السيسي من “حماس”.
والحقّ أنّ ما هو جدير بالعجب، هو المفاجأة من هكذا ممارسة عدوانية، تشكّل صلب المهمة التاريخية للنظام المصري، على الأقل من بعد كامب ديفيد، ونواة نسخته الحالية متمثلة بنظام السيسي، المتحوّر في النوع، لا في الدرجة فحسب، من جهة المهمة التاريخية في حراسة الكيان الصهيوني، وإضعاف الأمة، وتصفية القضية الفلسطينية، فمن حيث الاتصال لا ينفكّ هذا النظام عن موقف سلفه، نظام مبارك، في مهمته التاريخية سالفة الذكر، ولكنه طفرة هائلة بالغة التشوه تجعل مستوى الانحطاط في شكل العداء يتجاوز الدرجات إلى النوع.
ما يعني أننا إزاء حلقة جديدة من سلسلة الانحطاط تلك تنطوي على أسرارها الخاصة، فإنّ كل سياسات نظام مبارك مجتمعة، التي تندرج في المهمة التاريخية ذاتها، وعلى مدار ثلاثين عاما، تبدو متقدمة وطنيا وأخلاقيا وعروبيا حين قياسها بكثافة الانحطاط المرعبة التي كشف عنها نظام الانقلاب في السنوات الثلاث الأخيرة، كمّا ونوعا، منذ الإعداد للانقلاب، مرورا بإغراق الأنفاق مع غزة وإحكام حصارها وتجويع أهلها ومحاولة تركيع مقاومتها، وتدمير مدن مصرية سيناوية كاملة وتشريد أهلها لأجل حماية العدو، والتضامن العلني والعملي مع الاحتلال في عدوان العام 2014 على قطاع غزة، وليس أخيرا بالاتهام المتجدد والمستنسخ في صور جديدة أكثر تشوها عن اتهامات سبقته، أو بسلسلة الفضائح التي ما استطاع العدو كتمها، أو تلك التي تحدث عنها خادم النظام توفيق عكاشة، ولا تبدو سياسات السيسي في موضوعات مثل نهر النيل وسدّ النهضة الإثيوبي وزراعة القمح؛ بعيدة عن ذلك، وكأنّه لا بد من استثمار وجود هذا الكائن على كرسي الحكم لتحطيم مصر والأمة من خلفها في أسرع وقت ممكن، في إقليم سريع الحركة، ووقت شديد السيولة، بما لا يسمح بالانتظار أو التسويف، أو بالمبالغة في تغطية هذا الكائن.
ذلك يعني بالضرورة أن كل النظريات التفسيرية المقترحة تبدو قاصرة عن تفسير مستوى الانحطاط في العداء، الذي بلغ حدّ التحول في النوع كما سلف، ما يتطلب افتراض عنصر إضافي يسدّ الثغرة ويوفّر نظرية أكثر تفسيرية، ودون ذلك تظل النظريات المفتقرة إلى هذا العنصر أقل تفسيرية مع تضمّنها عناصر أخرى أساسية، فتصدير الأزمة إلى الخارج، ومحاولة الالتفاف على الفشل المستغرق للمجالات كلها، واستثارة الشعبوية المحيطة بالنظام ضد العنوان التقليدي منذ الانقلاب (جماعة الإخوان)، واستدعاء الشوفينية الشائهة المتمركزة حول نفسها ضد الطرف الأضعف في المنطقة (الفلسطينيون ومنهم حماس)، عناصر أساسية وحاضرة في النظرية التفسيرية، لكنها لا تكفي وحدها لتفسير مستوى التحول، فضلا عن كون هذا المستوى الذي بلغه نظام السيسي كان حاصلا منذ بداية الانقلاب، وطوال السنوات الثلاث الماضية، والانقلاب في أحسن أحواله قوة ورديفًا شعبيًا ودعمًا إقليميًا.
والعنصر الإضافي المفترض الذي يوفر القدرة التفسيرية الكافية، هو العنصر “الإسرائيلي”، لا الأميركي ولا الخليجي، ولا غير ذلك، ولكي يكون هذا العنصر أكثر تفسيرية؛ لا بدّ أن يُفترض عنصرًا أصيلًا، وعاملًا تأسيسيًا ومستمرًا، لا وسيلة إلى الرضا الأميركي، فقد كانت “إسرائيل” دومًا وسيلة مصرية وعربية وغير عربية إلى الرضا الأميركي، لكن احتياجها وسيلة لم ينحطّ يوما بمصر إلى هذه الدرجة، وقد كان هذا العنصر واضحا منذ البداية، وقبل أن يعترف وزير الطاقة “الإسرائيلي” يوفال شتينيتز بأنّ تدمير مصر لأنفاق غزة قد حصل بطلب “إسرائيلي”، وقبل أن يتحدث توفيق عكاشة عن جهود نتنياهو الشخصية لترتيب لقاء بين أوباما والسيسي.
بالتأكيد لا يعمل نتنياهو عند السيسي، وبالتأكيد كان الخليجيون، بوعي أو دونه، يستثمرون أموالهم لصالح الفاعل الأهم في انقلاب عبد الفتاح السيسي، أي الفاعل “الإسرائيلي”، ولا يمكنهم الآن أن يفسّروا مواقف السيسي المتعارضة معهم، ووقوعهم في شرّ أعمالهم، وكيف أن الله يضل الظالمين، إلا بآمر السيسي الفعلي الذي تعارضت مصلحته مع مصالحهم في مكان هنا أو هناك، وذلك كله لا يمكن أن يأتي صدفة، وإنما هو كشف في لحظة تاريخية مواتية، ولا بد من استغلالها، عن جهد بذل في سنين طويلة، وإذا كان هذا الكشف، ونظرا لطبيعة اللحظة شديدة السيولة وغير مأمونة التقلبات، يحمل مَهَمَّات ضخمة في تدمير الأمّة، وإفشال حركتها التحررية، فإنّ تحطيم المقاومة في غزة من تلك المهمات التي لا تحتمل التأخير، وإن حالت دونها حتى اللحظة العقبات التي اعترضت طريق السيسي، ولكنها مَهَمَّة ستظلّ قائمة ما ظلّ عبدالفتاح السيسي حاكمًا لمصر.
الانقسامات السياسية والأيديولوجية الناجمة عن الثورات العربية، وتفكك الأحلاف القديمة، وتعارض المصالح وتبدل المواقع، حال بدوره دون التوصيف الصحيح لانقلاب السيسي ودون اتخاذ الموقف الصحيح منه، ووجد البعض من شعاراتية القومية والمقاومة والعداء للاستعمار، من حلفاء السيسي، أو المتقاطعين معه في بعض القضايا، في إخوانية حماس قناعا لعلاقاتهم الرخيصة بالسيسي، فحماس العمود الفقري للمقاومة في غزة، وأرضيتها ومظلتها وحاميها، وكسرها يعني كسر المقاومة كلها، ولا يمكن أن يغطي على ذلك انفتاح مخابرات السيسي، لأسبابها، على هذا الفصيل المقاوم أو ذاك، فالإجراءات على الأرض، من هدم الأنفاق ومنع المال والسلاح، لا تفرق في النتيجة بين هذا وذاك، فضلا عن تجويع الشعب كله في غزة، وتدمير مقومات صموده، وبهذا يمكن أن نتخذ مواقف السيسي أداة مساعدة لفهم المواقف والمصالح “الإسرائيلية” في الأحداث الإقليمية الكبرى، كالذي يجري في ليبيا والعراق وسوريا واليمن، وللكشف عن حجم التناقض والنفاق والاستخدام الرخيص للقضية الفلسطينية. وللمفارقة، فإنّ من يُفترض فيه العداء لـ”إسرائيل”، ويصنف خصومه عادة كعملاء لـ”إسرائيل”، هو الذي يوفر الغطاء للعامل “الإسرائيلي” في انقلاب السيسي!
ومهما قلنا في أخطاء حماس وخطاياها، ومهما اتفقنا على سوء إدارتها للكثير من الملفات المتعلقة بها ذاتيًا أو بإدارتها لغزة أو بعلاقاتها الوطنية والإقليمية، فإنّ المواقف التي عبّرت عنها بعض شخصيات فتح، في انحيازها إلى الرواية المصرية التافهة والمتهافتة، تعني أن ما بين فتح وحماس قد تجاوز الصراع على التمثيل والسلطة، والاختلاف في الرؤى والبرامج، ليصبح تباينًا أخلاقيًا فادحًا تخسر فيه فتح باطّراد.