جاءت تفجيرات بروكسل الأخيرة لتعيد الموضوع القديم الجديد إلى واجهة الأحداث، وهو موضوع العنف والإرهاب الذي تمارسه بعض الجماعات المتشددة، سواءً في أوروبا أو العالم العربي والإسلامي أو دول أخرى سواءً أميركا أو روسيا أو أي دولة أخرى، فلم يعد مكان آمن في العالم أجمع من هذه الهجمات التي تظل في تفسير أسبابها محصورة بين مسارين؛ المسار الأول وهو أن هذه الجماعات تحمل فكرًا متطرفًا بعيدًا عن الإسلام المعتدل ولا ترى سوى العنف سبيلًا لتحيقيق أهدافها ودفع الظلم الواقع على الإسلام والمسلمين من وجهة نظرهم.
ويظل مسار آخر لا يلتفت إليه الغرب كثيرًا ويظل مثار جدل كبير؛ وهو التعامل غير العادل مع قضايا العالم العربي والإسلامي والكيل بمكيالين؛ ففي الوقت الذي يتم التعامل مع “إسرائيل” بكل الود والأريحية وتقديم الدعم لها والتغاضي عن جرائمها وعدم السعي الجاد لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة يتم الدفع بالجيوش والطائرات والأساطيل لمعاقبة أنظمة عربية وإسلامية على مجرد اتهامات لم يتم التثبت من صحتها وهو ما جرى مع نظام صدام حسين ومع أفغانستان ونظام طالبان، بل امتد الأمر في نظر كثيرين إلى التآمر على ثورات الربيع العربي بالتخلي عن الشعب السوري والمعارضة السورية والسماح لروسيا وإيران بالتدخل وقيادة الحرب مع النظام ضد المعارضة وقتل الآلاف وتهجير الملايين، فضلًا عما جرى من دعم للانقلاب العسكري بمصر وإعطاء الضوء الأخضر للسيسي وجيشه للإطاحة بأول رئيس منتخب، فضلًا عن ترك معارضي الانقلاب للقتل والاعتقال والأحكام القاسية.
ويبقى التخوف بين هذين المسارين على المسلمين والعرب في أوروبا والتعامل معهم من جانب اليمين المتطرف هناك والدعوات لطردهم ورفض ممارسة الشعائر الإسلامية هناك حتى وصل الأمر إلى حرق القرآن الكريم أكثر من مرة في أكثر من دولة أوروبية ومن ثم يؤدي هذا إلى مزيد من العنف والتطرف؛ فبعد كل حادث إرهابي تتجه أصابع الاتهام إلى الدول العربية عامة والمسلمين بشكل خاص، وتتعالى صيحات اليمين المتطرف الأوروربي ضد وجود الإسلام هناك، وهو ما يجعل مسلمي الدول الغربية يدفعون ثمن تطرف الإرهابيين، من خلال المزيد من التضييق على حرياتهم وحملات الاعتقال التي تستهدفهم لمجرد “الاشتباه”، كما أنهم يصبحون أكثر عرضة لأعمال انتقامية وهجمات ورقابة مُشددة.
وأعربت الجالية العربية والمسلمة في أوروبا، عن قلقها من دعوات المتطرفين لمهاجمة المسلمين وطردهم من الدول الأوروبية، مثلما حدث عقب حادث “شارلي إيبدو”؛ حيث كشف “المرصد الوطني لمناهضة الإسلاموفوبيا”، عن ارتفاع عدد الهجمات على المسلمين في فرنسا، لتسجل 128 اعتداءً منذ هجمات مقر صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة، وأوضح المرصد أن السلطات الفرنسية وصلتها بلاغات بشأن وقوع 33 حالة اعتداء على مساجد، إضافة إلى 95 تهديدًا، ويقول المرصد إن الحوادث التي تستهدف المسلمين كانت قد تراجعت بنسبة 41 في المائة في عام 2014 مقارنة مع 2013، لكن المرصد أوضح أن هذه الأرقام “لا تعكس الواقع”؛ حيث لا يرغب الكثير من المسلمين في تقديم شكوى عند تعرضهم لأي من الحوادث التي تنم عن كراهية الأجانب.
في الإطار ذاته، تحاول الدول الغربية والأوروبية إلصاق التهم الإرهابية جميعًا بالدول العربية، فأي حادث اعتداء يقع في إحدى الدول الغربية يتم توجيه التهمة إلى الدول العربية من خلال استباق التحقيقات؛ حيث سارعت وسائل الإعلام الفرنسية إلى تداول الأنباء التي تفيد العثور على جواز سفر سوري على جثة أحد منفذي هجمات باريس، فيما أشار التليفزيون الفرنسي إلى العثور على جواز سفر مصري على جثة أحد منفذي تفجيرات باريس بالقرب من ملعب المدينة الرئيسي، وهو ما يتضمن تلميحًا بأن منفذي العملية ينتمون إلى الدول العربية.
وأرجع الدكتور يسري العزباوي، الباحث بمركز الأهرام للدراسات -في تصريحات خاصة لـ”رصد”- هذه الهجمات إلى عدة أسباب، منها سياسة التهميش التي تمارسها الدول الأوروبية ضد المسلمين والعرب المقيمين هناك سواءً من هم من أبناء هذه الدولة والحاصلين جنسياتها أو المقيمين بها إلى الدرجة التي يوجد بها أحياء مهمشة بالكامل ومعروفة بالفقر والإهمال نظرًا لأن الغالبية التي تسكنها مسلمون وعرب رغم أن هناك من هم أبناء الجيل الثالث الذين ولدوا لآباء وأجداد يحملون جنسية البلد الأوروبي المقيم فيه والمنتمي له ومن ثم هذا يشعرهم بالتمييز بشكل أو بآخر ما يفقده الانتماء ويشعره بالاظطراب وعدم التوافق مع مجتمعه.
السبب الثاني، من وجهة نظر الدكتور العزباوي، ويتعلق بالسياسات الأوروبية تجاه قضايا الشرق الأوسط والتجاهل لها بل التعامل معها بطريقة مستفزة للعرب والمسلمين، ومنها قضية فلسطين مثلًا وعدم السعي الجاد لحلها وفي الوقت نفسه التعاطف الكبير مع إسرائيل والتغاضي عن جرائمها ضد الفلسطينيين وتعنتها في أية مفاوضات للوصول إلى حل للقضية الفلسطينية ومع ذلك لا يجبر الغرب على ذلك في الوقت نفسه الذي يتعامل مع أية أعمال عنيفة من الفلسطينيين أو جماعات متشددة بقوة ورفض كبير وهنا يمكن القول إن هناك كيلًا بمكيالين يشعر هؤلاء الشباب بالظلم وعدم جدوى أية آليات سلمية أو سياسية بشكل عام سواءً بشان القضية الفلسطينية أو قضايا المنطقة عمومًا.
ويرى الخبير الأمني العميد إبراهيم حجازي -في تصريحات خاصة لـ”رصد”- أن الحل الأمني الذي يصر عليه الجميع سواءً هنا في عالمنا العربي أو حتى في أوروبا وأميركا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوقف هذا العنف خاصة إذا كان هو المسار الوحيد ولكن لا بد من حلول جذرية منها المساواة ووقف التهميش وإجراءات تشعر هؤلاء الشباب ومجتمعاتهم بالعدالة، وأنه لا بد من تجفيف الأسباب الأساسية والمنابع التي تكون هي الدافع الأساسي لهذا العنف لأنه طالما هناك بطالة وتهميش وقبضة أمنية حديدية لا يمكن وقف هذه الممارسات.
وأضاف عميد حجازي، أنه لا يمكن إغفال الجانب الأمني بكل تأكيد ولكن لا يكون العامل الأول لأنه أثبت فشله في دول كثيرة ومن ثم توفير أجواء ديمقراطية حقيقية وفرص عمل وحلقات نقاش موسعة إلى جانب الاحتياطات الأمنية يمكن أن تؤدي إلى حلول أو على الأقل عدم انخراط أجيال جديدة ضمن أفكار تنظيم الدولة الذي أصبح مسار إعجاب كثير من الشباب الذين يشعرون بالظلم والقهر في بلداننا العربية أو في أوروبا، خاصة مع سياسة التهميش هناك.
ومن جانبه، قال عبدالفتاح ماضي، أﺳﺘﺎﺫ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﺎﻋﺪ ﺑﺠﺎﻣﻌﺔ ﺍﻹﺳﻜﻨﺪﺭﻳﺔ والباحث الزائر بمركز ودرو ويلسون بواشنطن، في تصريحات صحفية، أن الفشل في مواجهة تلك التفجيرات الإرهابية سببه عدة عوامل؛ أهمها العامل الخارجي ممثلًا في القوى الإقليمية والدولية التي أسهمت في تعميق هذا الاستقطاب، ثم في دعم إجهاض الثورات العربية. وأوضح “ماضي” أن العامل الأول، هو الوقوف ضد الثورة السورية السلمية وعدم بذل الجهد اللازم لوقف اعتداءات النظام على الثورة بالطائرات والدبابات وترك الساحة السورية تتحول إلى حرب إقليمية ودولية.
وتابع “ماضي” قائلًا: “العامل الثاني، كان دعم الثورة المضادة في مصر والتغاضي عن كل الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها النظام منذ 3 يوليو 2013 وحتى اليوم. وأشار إلى أن العامل الثالث، هو ما تقوم به دوائر رسمية وبحثية في الغرب من إعادة الروح لنظريات الاستثناء العربي، ووضع الإسلاميين كلهم في سلة واحدة والمساواة عمليًا بين القوى الإسلامية السلمية التي تناضل من أجل التغيير والقوى العنيفة التي ترفع السلاح. وتطرق إلى أن العامل الرابع، وهو الاستمرار في تسليح المنطقة بشكل جنوني، بينما الحروب تشتعل في عدة دول عربية”.
وجاء الخطأ الخامس -بحسب “ماضي”- هو الاستمرار في دعم دولة الاحتلال “الإسرائيلي” وتجاهل الحقوق المشروعة لشعب فلسطين، بل هناك اتجاه محموم في الغرب للترويج بأن الشعوب العربية ما عادت تولي هذه القضية أية أهمية. وأكد ماضي أن الاستعدادات الأمنية الداخلية في الغرب لن تكون قادرة على معالجة ظاهرة العنف، ولن تنجح أية إستراتيجيات أو تشريعات لمحاربة العنف أو تغيير المناهج التعليمية طالما بقيت الحكومات العربية القائمة على العنف والاستبداد والفساد على حد وصفه.
أما الخبير في الجماعات الإسلامية، حسن أبو هنية، فقد رأى، في تصريحات صحفية، أن الهجمات انتقامية من تنظيم الدولة ضد بلجيكا، ورسالة سياسية واضحة من التنظيم إلى هذه الدولة المنخرطة في التحالف الدولي الذي يحارب التنظيم في سوريا والعراق.
وأكد “أبو هنية” أنه لا جدوى من المقاربة الأمنية وحدها للقضاء على تنظيم الدولة رغم أهميتها، داعيًا إلى انتهاج مقاربة تكاملية شمولية بأركانها الأيديولوجية والثقافية والسياسية والاقتصادية، والقضاء على الأسباب التي أدت إلى تشكيل الجماعات المتطرفة في المنطقة، وفي مقدمتها الأنظمة الديكتاتورية المستبدة والفقر والتهميش وغيرها.