لا أحد من قيادات “النهضة” يجهل أني لست منتسبًا إلى حزبهم فضلًا عن أي حزب آخر.
وكلهم يعلمون أني كنت وما زلت دائمًا ناصحًا لهم.
ولست أشك في أنهم قد “وقفوا” على صحة أحكامي على الوضع وخاصة على ما اضطروا إليه لما لم يبق عفو عند المقدرة وصار خضوعًا للأمر الواقع.
فما كان يمكن أن يحقق أفضل النتائج أصبح اليوم طريق التوريط في كل ما يفقد حركة إسلامية البعد الخلقي الأساسي لمرجعيتها ولدعواها القرب من الشعب ومن أهداف الثورة.
لذلك فإني أتوجه إليهم بآخر نصيحة علها تفيدهم في مقبل الأيام.
وقد ابتعدت طيلة السنتين الماضيتين إلا لمامًا لأني رأيت أن الصيحات في الواد لا تجدي نفعًا.
فقيادات الحركة لهم وهم الاكتفاء الذاتي في كل المجالات وهم في غنى عن سماع الناصحين.
فمنذ مشاركة النهضة الهامشية في الحكم الحالي بدأت أشعر بأن الخطر بات يتراكم رغم وهم الكثيرين من قيادات النهضة أنهم مسيطرون على الوضع.
وهذا وهم خطير جدًا.
فما أخذ إنسان إلا بمثل هذه الحالات من الاطمئنان غير المؤسس على حقائق.
وكثرة التطبيل والادعاء بأن الحاكم الفعلي حاليًا هي النهضة من الطمأنة المخادعة.
فالحذر الحذر.
وطبعًا لا أريد أن أتهم بالملكية أكثر من الملك.
لكني أقدم على تقديم هذه النصيحة لوجه الله أولًا، ولأن ضرب النهضة في تونس مرة أخرى يعني لا قدر الله دخول البلاد في حرب أهلية قد تكون أطول مما مرت به الجزائر؛ لأن الشعب لم يعد يطيق التلاعب بأهداف ثورته وبأسس قيمه ومرجعياته من قبل “مفرخة” يجدون السند من الشرق والغرب لجعل تونس مجرد قاعدة أميركية وأوروبية بتمويل من عملائهما العرب.
خطة الخصوم واضحة إلا لمن فقد البصيرة:
سيغرقون النهضة ويمررون كل ما يريدون تمريره ثم مسحه في النهضة معتبرين من كان معهم من النداء لم يكن إلا تابعًا لهم وساعيًا لتونستهم فلم يفلحوا ولذلك سيعودون إلى صف المنشقين.
فيأتي دور المنشقين ويستعملون في الوقت نفسه الورقتين:
أردنا الصلح فأفشلوه بأن اشترطوا دفع ثمن نضالهم المزعوم.
ثم يربطون بين سنوات الترويكا الثلاث وسنوات حكم النداء بعجلة النجدة التي هي النهضة لتحميل النهضة مسؤولية كل مآلاتها.
وسيعاد بناء ما يسمى بجبهة الإنقاذ من جديد، ذلك أن البعض من الترويكا بات يحمل النهضة فشلها ويعتبرونها مسؤولة عن الإرهاب.
فتكون النهضة قد تنازلت عن أمرين من دونهما لا معنى لوجودها:
مرجعيتها أولًا
ومطالب الثورة الاجتماعية خاصة ثانيًا.
ذلك أنها هي الوحيدة التي ستحمل مسؤولية الليبرالية المتوحشة التي يعمل بها الحكم الحالي.
وأخيرًا فالطمع في الحكم “بوفاضح” فضلًا عن كون المشاركة فيه لا تحقق السلامة المطلوبة.
فإذا لم يقدم أعداء الشعب على المس بالأشخاص -مؤقتًا- فقد أقدموا على المس بالجذور أكثر مما فعل ابن علي والنهضة لا تحرك ساكنًا.
وإذا كانت النهضة تريد المشاركة في الحكم لإنقاذ البلاد فالمفروض أن يكون ذلك ببرنامج اجتماعي يحقق أهداف الثورة.
ولا يمكن أن يتحمل حزب ما واعٍ بشروط قيامه مسؤولية القرارات دون أن يكون حظه في أخذها مناسبًا لوزنه السياسي أو على الأقل بعدم توريط نفسه في ما سيغسل فيه بوصفه مساحة أرجل.
وكان يمكن دون ضرر أكبر مما يحصل الآن البقاء على الحياد خارج الحكم والمعارضة الرسمية في آن.
فيمكن أن يختار الحزب طريقًا ثالثة:
لا يعارض نسقيًا
ولا يوافق نسقيًا
بل يقتصر على معارضة ما يعارض أهداف الثورة ومرجعيته ويوافق على ما يخدمهما إن وجد.
لكن قياداتها صاروا يؤيدون أمورًا عجيبة كان من المفروض السكوت إن كانوا عاجزين عن معارضتها.
سيقال إن الحياد مستحيل:
وهذا غير صحيح.
فلا يمكن للقوى السياسية الحالية أن تفرض على النهضة شيئًا إذا هي تمسكت بمبادئ الثورة والمرجعية.
لذلك فيمكن أن تترك النهضة ما تراه مطابقًا لمرجعيتها وأهداف الثورة من القوانين يمر أو على الأقل ما تعتقد أنه لا يعارض القيم البينة وأن تمسك في ما عداها بحسب القرب والبعد من هذين الأمرين:
المرجعية
وأهداف الثورة الاجتماعية خاصة.
وما كنت لأوجه هذه النصيحة لو كنت أعتقد أن الأمر لم يعد قابلًا للتدارك.
لذلك فرأيي أنه على قيادات النهضة ألا يطمئنوا أكثر مما ينبغي لرئيس الدولة.
فهو لا يمكن أن يكون حليفًا يطمئن إليه.
إنه يبحث عن فرصة تحجيم النهضة بتوريطها في ما يفقدها شرطي وزنها السياسي:
أهداف الثورة
والمرجعية.
ولعله قد بدأ إعادة بناء جبهة الإنقاذ قبل أن يدركه العجز أو الموت.
والكثير من الأحزاب بما فيها من كان في الترويكا يحلم بذلك مع تأييد واضح من السفارات وممولي الثورة المضادة.
أما بقية القضايا المتعلقة بإعادة هيكلة الحزب وحسم مسألة الفصل فقد كتبت فيهما الكثير ولا فائدة من التكرار.
وقد يكون الإلحاح مولدًا للعناد.
خاصة وقد أصبح الفكر في الحركة متروكًا للكثير من المراهقين.
وإذا كانت الحركة بعد عقود من الصمود تتنازل الآن عن أهم ما يميزها أعني رفض الانغلاق على القطرية طمعًا في رضا أعداء الوطن ممن يتصورونه أمة تبعيتها للمستعمر استقلال واعترافها بنسبها تبعية.
وآمل أن يكون ما بدأت أتوجس منه مجرد توجس.
لكني أشم رائحة الغدر بالنهضة وأرى خيوطها تتشابك فلا يمكن تصور اليسار والتجمع سيهدأون قبل تحقيق ما كانوا مقبلين عليه ولو أدى ذلك إلى حمام دم يقضي فيه على عشرين ألف تونسي.