عد نحو شهر على إطلاق رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، معركة الفلوجة، أعلن في خطاب متلفز يوم 17 يونيو/ حزيران 2016 عن إحكام القوات العراقية سيطرتها على قلب المدينة، بعد أن انسحب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) من الجزء الأكبر منها. ومع وصول معركة الفلوجة إلى نهايتها، كما تشير التقارير الواردة من ساحة القتال، تثار جملةٌ من الأسئلة بشأن الخلفيات السياسية والاجتماعية والصراعات التي كشفتها عملية اتخاذ القرار في معركة الفلوجة، ودور الحشد الشعبي فيها، وفي المشهد السياسي والأمني العراقي عموماً.
معركة الفلوجة: قرار من؟
تتولى الولايات المتحدة التي تقود تحالفاً دولياً لهزيمة تنظيم داعش في العراق الإشراف والتخطيط للجهد الحربي ضده، وتوفر لذلك كل صنوف الدعم. ومنذ الجدل على تشكيل “الحرس الوطني” في المحافظات، والذي خُطِّط له أن يكون رأس الحربة في مواجهة “داعش”، وممانعة الأطراف الشيعية الحاكمة تشكيله، يعمل خبراء ومستشارون عسكريون أميركيون على دراسة بناء التركيبة المقاتلة لـ “داعش”، والتي يُرجَّح أنها تضم خليطاً من عناصر سابقة في تنظيمات الصحوة، ومقاتلين عشائريين، ومتطوعين، هذا إلى جانب القوات العراقية الرسمية. وتغيب عن هذه التركيبة فصائلُ الحشد الشعبي التي اشترط الأميركيون عدم انخراطها في المعارك التي يقودونها في إطار التحالف الدولي.
لهذا السبب، لا يبدو واضحاً إن كانت معركةُ الفلوجة استمراراً للمعارك التي يشرف عليها الأميركيون في الأنبار، أم أن لهذه المعركة سياقاً مختلفاً، نظراً لمشاركة الحشد الشعبي فيها. وتشير دلائل إلى أنّ فتح هذه المعركة كان قراراً عراقيًا، وتحديدًا قرار رئيس الوزراء العبادي، وأنّ إعلانه عن انطلاق المعركة بنفسه أحد أهم هذه الدلائل. وأكثر من ذلك، يرتبط هذا الإعلانُ بوضع العبادي السياسي، أكثر مما يرتبط بحيثيات الحرب على “داعش”. فترتبط معركةُ الفلوجة، وتوقيتُها، وإعطاؤها الأولوية على حساب معركة الموصل، بالأزمة السياسية المستمرة منذ فبراير/ شباط الماضي، سواء بمحاولة توجيه الأنظار إلى معركة الفلوجة التي تتمتع برمزيةٍ كبيرة لـ “داعش” الذي سيطر عليها مطلع عام 2014، غداة إعلان رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، بدء المعارك على “داعش” في منطقة وادي حوران (في مثلث الحدود العراقية الأردنية السورية)، أو في محاولة استثمار أي نصر ممكنٍ في الفلوجة، لتغيير موازين القوى في بغداد، لا سيما أنّ الأزمة الأخيرة أظهرت العبادي ضعيفاً وعاجزاً ومفتقدًا المبادرة السياسية. تجهت الخطةُ الأميركية إلى أن تكون الموصل ساحة المعركة الآتية ضد “داعش”، وليس الفلوجة، فبحسب النائب عن محافظة نينوى، عبد الرحمن اللويزي، كان “من المفترض أن تنطلق معركة تحرير مدينة الموصل بعد تحرير الرمادي مباشرةً، إلّا أنّ الخلافات السياسية ألقت بظلالها على المعركة المنتظرة، ما أدى إلى تغيير بوصلتها إلى مدينة الفلوجة بدلاً من الموصل”، فجاء التغيير لإخماد الصراعات بين الأطراف الشيعية الحاكمة، ولتغيير صورة العبادي الضعيف، بمنحه منجزاً بأهمية الفلوجة.
دور الحشد الشعبي
لهذه الأسباب عينها، ثار جدل واسع حول دور الحشد الشعبي في المعركة، فالعبادي الذي يحتاج نصراً واضحاً في الفلوجة لا يستطيع أن يفرّط في الدور الأميركي في هذه المعركة، وهو دور أساسي، ولا غنى عنه لهزيمة تنظيم “داعش”، كما تبيّن في معركة استعادة تكريت (مارس/ آذار 2015)، والتي ما كان يمكن أن تنتهي، لولا التدخل الحاسم لطيران التحالف الدولي في خواتيمها. ومن جهةٍ أخرى، لم يستطع العبادي مواجهة إصرار الحشد الشعبي على المشاركة في معركة الفلوجة التي اندفع لها بقوة، لما تمثله من أهميةٍ استثنائية، نابعةٍ من رمزية المدينة الكبيرة.
وهكذا، وبغض النظر عن السياقات العسكرية للحرب على “داعش”، مثّلت معركةُ الفلوجة رأسمالاً رمزياً كبيراً للحشد الشعبي، على المستوى السياسي، وهو يهيِّئ نفسَه لأداء دور سياسي، بعد أن تنتهي “مهمته الجهادية” في الحرب على “داعش”. كما تمثّل معركةُ الفلوجة رصيدًا معنويًا كبيرًا للحشد الشعبي، في سياق السجال المتفجر بين الأطراف الشيعية، منذ أكثر من أربعة أشهر.
ولذلك، وفي إطار البحث عن حلٍّ وسط، جرى الاتفاق على دورٍ محدود، وغير مركزي للحشد، يتمثّل بمحاصرة بعض البلدات المحيطة بالفلوجة، من دون أن يكون له دور في اقتحام المدينة. عبّر عن هذا الاتفاق هادي العامري، رئيس منظمة بدر، المليشيا الأبرز في الحشد الشعبي، إذ قال إنّ قوات الحشد ستشارك فقط في عمليات تطويق الفلوجة، ولن تدخل المدينة، وستترك مهمة اقتحامها للجيش، إلّا إذا فشل الجيش في ذلك.
ويبدو أنه تمّ التوصل إلى تسويةٍ بشأن الحشد الشعبي مع الأميركيين الذين لم يجدوا بدًّا من تقديم الدعم الجوي للقوات العراقية، حتى وإن كانوا يشترطون، في المبدأ، عدم مشاركة الحشد الشعبي في المعارك ضد “داعش”. لذلك، تضمّن أول إعلانٍ رسمي عن المساهمة الأميركية في معركة الفلوجة، أدلى به المتحدث باسم التحالف الدولي، كريستوفر وارن، إشارةً إلى دور الحشد الشعبي فيها، إذ قال: “تشارك قوات الحشد الشعبي في هذه العملية (استعادة الفلوجة)، وقد أعلنت أنها ستبقى خارج المدينة”.
انتهاكات بحق المدنيين
غير أنّ الدور الفعلي للحشد كان أكبر من تطويق المدينة. ومع أنه لم يتقدّم باتجاهها، إلّا أنّ فصائل الحشد شنّت حملاتٍ واسعةً لمحاصرة المدنيين الفارّين من المدينة، بسبب المعارك واحتجازهم. وقد قدّر عدد المدنيين المتبقين في الفلوجة ولم يغادروها إثر سيطرة “داعش” عليها، مطلع عام 2014، بنحو 50-90 ألف مدني، بحسب تقديراتٍ متفاوتةٍ لجهات مختلفة (الأمم المتحدة، والحكومة العراقية، والجيش الأميركي).
ومع أنّ المنظمات الدولية، وفي صدارتها الأمم المتحدة، تحدثت أنّ “داعش” يستغل المدنيين دروعاً بشرية، مثلما حدث في مواقع أخرى من العراق، وأنّ 20 ألف طفل على الأقل محاصرون داخل الفلوجة، يواجهون مخاطر التجنيد الإجباري، أو الانفصال عن أسرهم، تحدثت الأمم المتحدة، من جهة أخرى، عن انتهاكاتٍ واسعة تمارسها “جهات موالية للحكومة” ضد المدنيين الفارين من المدينة، تصل إلى حد القتل. وتحدّث المفوّض السامي لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، زيد رعد الحسين، عن “تقارير موثوقةٍ ومزعجةٍ للغاية، تفيد بأنّ بعض الناس الذين نجوا من تجربة الهروب المرعبة من “داعش” واجهوا اعتداءاتٍ جسديةً شديدةً بمجرّد وصولهم إلى الجانب الآخر”، مشيراً إلى حالاتٍ من الاعتداءات الجسدية، وغيرها من أنواع سوء المعاملة لـ “انتزاع اعترافات قسرية”. أمّا الأطراف السياسية السنيّة في العراق، فتحدّثت عن “قتلٍ منهجي”، يمارسه مقاتلو الحشد الشعبي بحق المدنيين الفارّين من الفلوجة. وبيّن محافظ الأنبار، صهيب الراوي، بالأرقام، النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق التي شكّلتها المحافظة، للكشف عن انتهاكات الحشد الشعبي بحق المدنيين الفارّين من الفلوجة، فتحدّث عن مقتل 49 شخصاً، وفقدان 643 من المدنيين لم يُعرَف مصيرهم وأماكن احتجازهم، أمّا المحتجزون الناجون ممن تمّ إطلاق سراحهم، فقد تعرّضوا، بحسب اللجنة، إلى تعذيبٍ جماعيٍّ بمختلف الوسائل، وقد مورست بحقهم أساليب تمسّ بكرامتهم الشخصية والنيل من اعتقادهم المذهبي وانتمائهم المناطقي ومصادرة الأموال والمصوغات الذهبية والسيارات والمقتنيات الأخرى التي كانت معهم.
واللافت أنّ عمليات الانتقام من المدنيين لم تحدُث عقب انتهاء المعارك، على نحو ما حصل في تكريت، بل حصلت في بداياتها. ومع أنه سبقت الإشارة إلى أنّ الأساس في مشاركة الحشد الشعبي في معركة الفلوجة هو محاولة تحقيق مكاسب سياسية، نظراً لرمزية هذه المعركة، يبدو أنّ دوافع عدد من فصائل الحشد هي محض انتقام وتشفٍ، في سياقٍ طائفي؛ فهذا ما يمكن أن يفسّر الاعتداءات والتباهي بها، بالنشر المكثف لصور ومقاطع تصور إهانة، وتعذيباً، وقتلًا لأعداد من المدنيين الفارين من الفلوجة.
خاتمة
إنّ تكريس صورة الحشد الشعبي بصفته مجرّد أداة انتقام في صراع طائفي، ومن ثمّ تغيّر النظرة إلى معركة الفلوجة (يعدها كثيرون أول معركة حقيقية ضد “داعش”)، من كونها “معركة تحرير”، إلى أن تكون حلقةً في “حربٍ طائفيةٍ” جارية في العراق، وربما الإقليم، سيمثّل عائقاً كبيراً في الحرب ضد “داعش”. ويبدو أنّ عدم القدرة على ضبط الحشد الشعبي هي التي دفعت العبادي إلى الحديث عن إبطاء وتيرة معركة الفلوجة، علماً أنه تذرّع للقيام بذلك بالخوف على سلامة المدنيين داخل المدينة. وبعد ذلك، جرى نقل وحداتٍ من الجيش العراقي من محيط الفلوجة إلى منطقة مخمور، بين أربيل والموصل، استعدادًا لمعركة تحرير الموصل، الأمر الذي لاقى انتقاداتٍ شديدة من قادة الحشد الذين وصفوا تحريك القوات هذا بأنه خيانة.
الأكثر خطورة أنه، على الرغم من تململ الحاضنة المحلية من “داعش”، والتي تتحمّلها مكرهةً حين تُخيّر بين “داعش” والحشد الشعبي، فإنّ سياسات الانتقام هذه لا تساهم في تطبيع العلاقة بين الجبهة المعادية لـ “داعش” والحكومة المركزية من جهة، والمجتمعات المحلية في المحافظات السنية التي تسيطر عليها “داعش”، من جهة أخرى. وفي الحقيقة، ستصبّ هذه السياسات في مصلحة “داعش” بالدرجة الأولى.
ومرّة أخرى، لا يبدو الانتصار على “داعش” ممكناً من دون هذا التطبيع السياسي، حتى يتجاوز السنة العرب في المجتمع العراقي شعورهم بأنّ الحكومة التي تحمل مشروع التحرير، تحمل معها أداة انتقامٍ وتدمير، في الوقت نفسه.