يقول بعض حسني النوايا: “لو أن مصر تحت الاحتلال لما فعل المحتل أكثر مما يفعل “سيسي” ومجلس العسكر”!
والحقيقة هي أن الاحتلال العسكري “الوطني” في مصر ليس له مثيل في دول العالم كله، صحيح أن حكم العسكر يتشابه، وأن تجارب الانقلابات تُسْتَنْسَخ، وأن “كتالوج” الانقلابات العسكرية في دول العالم متماثل.. ولكن ذلك لا ينفي أن أسوأ حكم عسكري عرفه البشر هو حكم العسكر في مصر، وأن انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 بقيادة هذا المدعو “سيسي” ومجلسه العسكري قد يكون أسوأ انقلاب عسكري في التاريخ.
كيف يمكن إثبات ذلك؟
ببساطة.. ودون أي تعقيد.. لا يوجد في تاريخ الاحتلال ولا في تاريخ الانقلابات العسكرية من تبرع بتقليص رقعة الأرض التي يحكمها، أو يحتلها، بمقابل أو دون مقابل.
إنجلترا حين احتلت مصر مثلا.. احتلت المملكة المصرية (مصر والسوادان)، وكانت حريصة على بقاء السودان تحت حكم مصر، لكي تزيد مساحة الأرض التي تحتلها، والخيرات والثروات التي تستفيد منها، وحين سحب الخديوي توفيق الجيش المصري من السودان فعل ذلك مضطرا بضغط من الإنجليز، وأصرت إنجلترا على الاحتفاظ بالسودان تحت الاحتلال الإنجليزي.
هذا مثال.. ولا يوجد في التاريخ البشري كله محتل واحد تبرع بمساحة من الأرض التي يحتلها لدولة أخرى.
الاحتلال يقسم الدول، ولكنه يقسمها لصالحه، كما حدث مع الدول العربية بعد خروج إنجلترا وفرنسا، فقد تم تقسيم الوطن العربي بما يخدم مصالح المحتل والقوى العظمى.
حدث أن انتزعت مساحات كبيرة من دول احتلت دولا، فدولة مثل الولايات المتحدة كانت مستعمرة بريطانية، ثم قامت حرب الاستقلال، وبدأ الجيش الأمريكي الناشئ يحرر الأرض قطعة خلف قطعة.
وظلت إنجلترا سنوات تحاول الحفاظ على حكمها خلف المحيط، ولكن في النهاية خسرت، واستقلت الولايات المتحدة الأمريكية بعد حرب طاحنة بدأت في 1775م، واستمرت ثماني سنوات، وانتهت في 1783م، بتوقيع معاهدة باريس بين بريطانيا والولايات المتحدة التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة، ولو أن أنجلترا هي التي انتصرت فلربما ظلت تحكمها، أو ربما تقسمها إلى دويلات تخدم المصالح الإنجليزية (كما حدث في الوطن العربي).
هكذا تتحرر الدول، لا يوجد سابقة واحدة في تاريخ الاحتلال تبرع فيها محتل بأرض يحتلها لدولة أخرى.
حين وقعت اتفاقية “سايكس بيكو”، واقتسمت فرنسا وإنجلترا تركة العثمانيين في الوطن العربي، تنازلت فرنسا عن بعض الأراضي في الشام والعراق لصالح إنجلترا، ولكن كان ذلك لسداد دين كبير لجيوش الحلفاء التي ساعدت الفرنسيين في تحرير فرنسا التي كانت تحت حكم النازيين، حيث دفعت سائر جيوش الحلفاء عشرات الآلاف من القتلى لكي تتحرر باريس، وكانت تنازلات فرنسا في “سايكس بيكو” محدودة جدا، لبعض المناطق التي لن تستفيد منها فرنسا بحال لأن ثرواتها البترولية تخضع لمعاهدات طويلة الأجل مع الشركات البريطانية.
اليوم.. في مصر رئيس مصري “وطني”، وجيش مصري “وطني”، هكذا يصفهم البعض.. ولكنهم يتبرعون بأرضنا التي حكمناها آلاف السنين، وقاتلنا في سبيلها في عشرات الحروب، ويهبونها لدولة أخرى لم تطالب بها أصلا، ويتنازلون بذلك عن منطقة نفوذ استراتيجية كانت سببا في انتصارات كثيرة عبر التاريخ، ويعرضون سيناء كلها للاحتلال مرة أخرى.. يفعلون كل ذلك في سابقة لا مثيل لها في تاريخ البشرية كلها.. ثم يتهموننا نحن الذين عارضناهم بالخيانة.
لا يوجد حكم عسكري في التاريخ كله فعل ذلك، قد يقول قائل إن هذا الأمر قد حدث في الأرجنتين فقد خسرت الدولة بسبب الحكم العسكري جزر “فوكلاند”.
ولكن الأمر أيضا مختلف، فالأرجنتين قررت أن تخوض الحرب تحت حكم الديكتاتور “ليوبولدو جالتيري” ومجلسه العسكري عام 1981، ولكنها لم تكن تحكم جزر “فوكلاند” أصلا، بل حاول هؤلاء العساكر (بعد أن خربوا بلدهم) أن يخرجوا من أزمتهم الداخلية من خلال نصر عسكري، فاحتلوا هذه الجزر، وظنوا أن بريطانيا لن تخوض حربا بسبب ذلك.
فما كان من بريطانيا تحت حكم السيدة “تاتشر” إلا أن أعلنت حربا شعواء، وأرسلت أسطولها في غضون أيام، وهزمت الجيش الأرجنتيني في أسابيع عدة، وأعادت “فوكلاند” إلى بريطانيا، وخسرت الأرجنتين حقها التاريخي في هذه الجزر التي تبعد عن بريطانيا آلاف الأميال، بينما هي على مرمى حجر من ساحل الأرجنتين.
لم يتبرع حاكم الأرجنتين (وهو ديكتاتور عسكري منقلب أيضا) بمنح جزر “فوكلاند” لبريطانيا، مقابل اعتراف سياسي، أو مقابل بضعة جنيهات استريلينية، بل انتزعت هذه الجزر من الأرجنتين انتزاعا بحرب هزم فيها الجيش الأرجنتيني هزيمة نكراء!
ما يحدث مع هذا الخائن المدعو “سيسي” ومجلسه العسكري.. لم يحدث في التاريخ كله، لا في تاريخ الاحتلال، ولا في تاريخ الانقلابات العسكرية.
قد يلومني البعض على كلمة “خائن”، وأنا أنبه إلى أنني لا أقصد أن أسب أحدا، بل هو وصف دقيق المعنى، شديد الدقة، إنها جريمة في القانون اسمها (الخيانة العظمى)، وأطالب من يعترض بأن يقول لي إذا لم تكن هذه هي الخيانة.. فما هي الخيانة إذن؟
لذلك من المشين أن نرى معارضي الانقلاب اليوم يتنازعون أمرهم، ويشتبكون في معارك فرعية، لأسباب سطحية، بينما الدولة المصرية والشعب المصري في كارثة محققة ليس لها مثيل في تاريخ الأمم.
قلتها مرات ومرات.. مصر اليوم يتهددها خطر وجودي، نحن اليوم في معركة أشبه بمعركة الهندي الأحمر في أمريكا الشمالية، نحن أمة معرضة للإبادة، مهددون بالفناء.
يحاصرون شريان حياتنا “النيل” من الجنوب، وثرواتنا من الشمال، وبالفوضى من الغرب، وبالأسلحة النووية من الشرق، وأكبر حصار يحاصرون به مصر في الحقيقة.. هو حصارها بزرع أمثال هؤلاء الخونة في قصر الاتحادية، وفي وزارة الدفاع.
آن الأوان لتجاوز الخلافات، وأن نعرف خصمنا الحقيقي، وأن نتعلم كيف تدار اختلافاتنا، وأن نفهم كيف تراعى الأولويات، وكيف يتقدم الأهم على المهم، ومتى ينبغي أن تتراجع الأجندات الشخصية والحزبية وتتقدم المصلحة الوطنية الخالصة.
إن الساحة المصرية اليوم (في الداخل والخارج) في حالة إجماع ضد النظام الحاكم في مصر، والقضايا التي تجمع المصريين كثيرة، ومن أبرزها قضية “تيران” و”صنافير”، ولكننا -للأسف الشديد- نبحث عن مواطن النزاع، لكي نهدم سائر الجسور التي تمتد بين المصريين.
شبابنا هم الأمل، هم من أشعل الثورة، وهم من خاض معركة الجزيرتين، وهم من سيستمر في المقاومة، وهم من سيجتمع بهم الشمل، ويتوحد بهم الصف.
شبابنا لن يقبلوا أن تقبع مصر في ذيل الأمم، وأن تفنى مصر بسبب مجموعة من الخونة قفزوا على السلطة، بسبب اختلافات أهل الثورة.
كلمتي الأخيرة: اتحدوا!
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..