الشام تُغير ولا تتغير.. فالمُغير عادة لديه شيئ أساسي وأصلي لا يمكن تغييره، وإنما يدفع الآخرين إلى تغيير وتكييف مواقفهم وفقه، وأتذكر مقولة الروائي محمد الماغوط الشام تأخذ ولا تعطي، وذاك قدر الحواضر الكبرى، فقد أثبتت الشام ذاك عبر التاريخ فأهدت الأمة الإسلامية أكبر إمبراطورية يوم كانت حاضرة الخلافة الأموية واستمرت واستمر معها تغيير العالم وفق تلك الإمبراطورية فكانت أعظم أمبراطورية في تلك الأيام ولا يزال الشعراء يتغنون بها.
لعل الموقف التاريخي الذي اتخذه تنظيم القاعدة بالسماح لأول فرع له بالانفكاك عنه يشير إلى تلك الحقيقة أعلاه من أن الشام تُغير ولا تتغير، وأكاد أجزم أن هذا الموقف التاريخي سيكون له تداعياته وتأثيراته على فروع القاعدة في مناطق أخرى من العالم، فكثيراً ما يقع الإسلاميون أسرى أحلام وتاريخ مجيد مصطدم بواقع مرير كان بحاجة إلى جهود جبارة وضخمة للخروج منه والانشقاق عنه، وبالتالي فإن الأحلام التي تدغدغ المشاعر قد تُكلف الأمة دماء وخراباً ويبابا لا يعلم به إلا الله، وقد علمه أهل الشام في هذه السنوات المدمرة..
اليوم وقد أعلن أبو محمد الجولاني فك ارتباطه بتنظيم القاعدة، وشدد بالمقابل على استعداده التعاون مع كافة الجماعات الثورية والجهادية السورية من أجل تشكيل جسم جديد للثورة، ما على الجماعات السورية الجهادية والثورية، وما على داعمي الثورة السورية في الخارج من هيئات وجماعات وأفراد ودول إلا دعم هذا التوجه ودعم تشكيل هذا الجسم ،إذ أنه لم يسبق في التاريخ المعاصر أن نجحت جماعات ثورية في التوحد دون دعم سياسي ومالي وديبلوماسي وعسكري خارجي ولنا في منظمة التحرير الفلسطينية وجماعات الجهاد الأفغاني وثوار ليبيا أسوة حسنة…
أما الهيئات والشيوخ والنخب السورية فعليها اليوم مسؤولية عظيمة تتلخص في دعم هذا التوجه وبقوة وفصل القمح عن الزوان، وفرز الزيف من الحقيقة، فما يريده المجتمع الدولي قد تحقق إن كان يريد ما أعلنه، أما ما يبطنه فستظهر حقيقته الآن، أما ما يريده الشعب السوري من فتح الشام الآن من تعديل سلوكيات مُنحلتها جبهة النصرة فهذا من اختصاص أهل الشام لا علاقة له به أميركا ولا المجتمع الدولي، وبالتالي فعلى هذه النخب أن ترحب بهذه الخطوة وتعلن بأن ما تبقى من ممارسات تراها إشكالية في الجبهة هي من اختصاص أهل الشام وأهل العلم أن يحلوها معها، لا علاقة للخارج به، وإلا فإن كل من يحرض ويتعذر ويشكك بالخطوة فهو يصب ماءه في طاحونة المجتمع الدولي المجرم الذي يفتك بأهل الشام قتلا وتشريدا، ويومها لن يسامح الشعب السوري تلك النخب التي لا تزال تقف مع قاتليه بعلم أم بجهل، وبعمالة أم بسذاجة..
لا زلت أتذكر موقفاً لأحد قادة حركة طالبان أفغانستان المعروفة بانتمائها المذهبي الحنفي حين سعى أحد الأفغان العاديين إلى تأليب الحركة على جماعة سلفية وهابية في منطقة شرقي أفغانستان، فما كان من الزعيم الطالباني إلا أن قال للأفغاني العادي هذا الأمر ليس من اختصاصك وليس من مجالك وهذا يحله العلماء وليس العوام، وما على أهل الشام وعلمائها ونخبوييها إلا أن يقولوا للمجتمع الدولي بأن النصرة أدت ما عليها بفك الارتباط الذي كنتم تدعون إليه وتتذرعون به لدك وقصف الشام وأهلها، أما ما يتعلق بنا نحن أهل الشام فنحن نحله بيننا فقط..
اليوم المسؤولية كبيرة على النخب السوري من علمائية وعسكرية وسياسية ومثقفة وإعلامية أن يستثمروا هذا الحدث التاريخي السوري في تجييش الشعب السوري نحو الوحدة الوطنية والإشادة بهذه الخطوة، وإيصال رسالة واضحة للعالم أجمع أن التذرع بقصف الفصائل الجهادية والثورية المقاتلة للعصابة وسدنتها المحتلين، هو قصف على الشعب السوري وليس قصفاً لتنظيم أو حزب معين..