أهم رسالة موجهة إلى الداخل المصري في الوقت الراهن، هي أن البلد مقبل على مرحلة صعبة، تفرض على السلطة اتخاذ عدة إجراءات اقتصادية قاسية، وتستدعي من المواطنين تفهما وتجاوبا وصبرا. الخبر ليس جديدا، لأن الناس يعيشون الأزمة الاقتصادية بمختلف تجلياتها، لكن الجديد هو الجهر بحقيقتها بعد استحكامها وبلوغها مرحلة الخطر. وليس سرا أن السلطة المصرية ظلت معلقة الأبصار بالخارج طوال السنوات الأخيرة، ولأن صبر الخارج كاد يضيق بحمل العبء، خصوصا بعد تراجع أسعار النفط، فلم يكن هناك مفر من مخاطبة الداخل بتلك اللغة التي لمسناها في تصريحات المسؤولين أخيرا. ولأن عطاء الخارج كان ولا يزال يتمثل في مساعدات الدول النفطية، إلى جانب المنظمات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن اليد العليا أصبحت من نصيب تلك الجهات. وأن مصر المأزومة صارت صاحبة اليد السفلى. ويعذر الطرف الأول (الأقوى) إن هو فرض شروطه، أما الطرف الثاني (المضطر) فيفهم موقفه إذا ما كان غاية مراده أن يحافظ على ورقة التوت التي تستر عورته، متمنيا أن يبقي لنفسه على الحد الأدنى من الكرامة. أما الطرف الثالث المتمثل في المجتمع المصري فإنه وحده الذي سيدفع الثمن في نهاية المطاف.
لدى حزمة من الملاحظات في هذا الصدد، بعضها يتعلق بخطاب السلطة والبعض الآخر يخص أداءها. إذ ليس دقيقا ولا مستساغا أن يمهد بعض المسؤولين للقرارات الصعبة بقولهم إن الدولة لن تقدم خدمة بالمجان، لأن الحكومة لا توفر المصروفات من جيوب أعضائها، ولكن أموالها هي حصيلة الضرائب التي يدفعها الناس أو الموارد التي هي ملك للمجتمع. والقصور في الموازنة يحسب على السلطة التي قصرت في جباية الضرائب أو أساءت استثمار الموارد والسياسات. وفي هذه الحالة فإن اللوم ينبغي أن يوجه للسلطة التي لا يحق لها أن تتهم المجتمع أو تمن عليه. حتى ما يبدو أنه مجاني فإن الحكومة تعاملت معه بازدراء شديد. حمل الناس أضعاف أضعاف التكلفة الحقيقية للخدمة. والنموذج واضح وفادح في التعليم الذي يفترض أنه مجاني، لكن التعليم الحقيقي صار يتم خارج المدارس وليس في فصولها، فضلا عن أن تكلفته أصبحت ترهق الأغلبية الساحقة.
بالقدر ذاته، فليس صحيحا ما يروج له المسؤولون عن أن الفقراء ومتوسطي الحال لن يتأثروا بإجراءات زيادة الأسعار، لأن هؤلاء هم أكثر الذين يعانون هذه السياسة. ذلك أن الزيادات في بعض السلع تحقق دفعة للغلاء تتجاوز بكثير حدود المستهدفين في البيانات الإعلامية.
من ناحية ثالثة فإن استسهال مد أيدي الحكومة إلى جيوب الناس للتفتيش فيها عندما تحل أي أزمة، أصبح سياسة تقليدية عفا عليها الزمن، وحكاية رفع الأسعار لمواجهة كل أزمة ينطبق عليها الكلام ذاته؛لأن الجهد الحقيقي يختبر حين تبذل الحكومة جهدها لتحريك عجلة الإنتاج، وحث القوى الحية في المجتمع لكي تعمل وتبدع كي توفر حاجياتها، وتشجعه على التصدير. وإذا شئنا أن نتصارح في هذا الصدد، فينبغي أن نعترف بأن تأثرنا بثقافة اليد السفلى بات أقوى بكثير من تعلقنا بسياسات وقيم اليد العليا.
إذا مضينا خطوة أبعد في المصارحة، فينبغي أن نعترف أيضا بأن الخطاب السياسي في مصر لم يختلف في بعض جوانبه عن خطاب الستينيات، التي أقنع المجتمع خلالها بأن الدولة ستقوم بكل شيء، متأثرة في ذلك بنزعتها الاشتراكية، وهو ما فعلته السلطة في الوقت الراهن حين صورت للمجتمع أن القوات المسلحة ستتحمل العبء وستقوم بكل ما يلزم، من توفير الأمن على الحدود إلى توفير السلع في الأسواق والمجمعات. وهو ما قد يصلح في مواجهة حالة استثنائية، لكننا اكتشفنا بمضي الوقت أن هذا السلوك لا يصلح نموذجا لإدارة السياسة الاقتصادية.
الملاحظات التي تتعلق بالأداء عديدة ويمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
– أن التجربة أثبتت أن الإصلاح الاقتصادي لا يتحقق إلا في ظل الإصلاح السياسي، بل إن الإصلاح الأخير هو الأصل الذي من دونه يتعثر أي إصلاح اقتصادي؛ ذلك أن عجلة الإنتاج لن تتحرك والمستثمرين لن يدخلوا السوق المصرية مادام الخطاب الرسمي يتحدث عن معركة مفتوحة ضد الإرهاب مستمرة طوال السنوات الثلاث الأخيرة، ومادام تقييد الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان مستمرة.
– أن الحكومة لا تستأسد على المجتمع في سياستها فحسب، ولكنها لا تقدم له النموذج واجب الاحتذاء في ترشيد الإنفاق. فنحن نرى تقتيرا في بعض أنشطة خدمة المجتمع، وبذخا مشهودا في الإنفاق على المؤسسات السيادية. كما أننا نرى شحا في الاستجابة للمطالب المعيشية لبعض الفئات، وإنفاقا بلا حساب على فئات أخرى.
– إننا نفهم أن أي فريق عمل، حتى إذا كان فريقا لكرة القدم، إذا تكرر فشله في تحقيق النتائج المرجوة، فإن تغييرا ينبغي أن يطرأ على إدارته أو «لاعبيه»، وفي المعادلة المستقرة التي تقول إن الفشل إذا تكرر، فأنت لا تستطيع أن تحصل على نتائج مغايرة إلا إذا غيرت الفريق الذي يدير العملية؛ حيث لا تتوقع نتائج أفضل من جانب الفريق ذاته الذي ثبت فشله. وإذا حاولنا تنزيل هذه الفكرة على الواقع الاقتصادي، فإن ذلك يدعونا إلى طرح السؤال التالي: بعد الذي جرى، ألا يحفزنا ما جرى إلى تغيير السياسات وتغيير الفريق الذي يقررها؟