في القرن الماضي، وفي أحد فنادق لندن الفخمة، جلس الدبلوماسيان الشهيران “سايكس” البريطاني و “بيكو” الفرنسي، واضعين أمامهم خارطة المنطقة العربية، وشرعا فيها تمزيقا وتقسيما وفقا لأهواء ومطامع العظيمتين بريطانيا وفرنسا.
ان الاحداث الراهنة التي تشهدها المنطقة العربية من حروب ساخنة واحتدام سياسي لا يحتاج إلى عين ثاقبة، لإدراك حتمية خضوع المنطقة إلى تقسيم وتفتيت شامل ووشيك، ستنتقل عدواه بالتبعية الى العالم بأسره بلا استثناء، فمن لن تطاله سكين التقسيم؛ ستطاله سكين الفوضى وأعمال العنف والاضطرابات الداخلية، والسبب في ذلك هو اتساع الشرخ بين التيارات المعتدلة، وسيطرة المنظمات الارهابية والطائفية على المنطقة والعالم، وسيتجرع الغرب “رغما عن أنفه” شيئا ليس باليسير، مما أذاقه للبلاد العربية على أيدي هذه التنظيمات التي أوجدها في المنطقة لتحقيق مصالحه، بعد أن ينقلب السحر على ساحره، ويتجرع طباخ السم من سمه.
وبالعودة إلى البلاد العربية ومنطقة الشرق الأوسط التي باتت مرتعا للحروب والانقلابات، فان الحديث عن ارهاصات التقسيم هو ليس بالأمر الجديد، فقد تقدم “هنري كيسينجر” مهندس السياسة الأمريكية، بمشروع تقسيم للشرق الأوسط على أساس طائفي، منذ 1973، ففي سوريا “مثلا” التي رفعت الجيوش المتناحرة فيها شعار “نحكم أو ننفصل”، كانت خرائط تقسيمها مجهزة مسبقا قبل إعلان الحرب فيها، فقد نشرت مجلة “كيفونيم” الإسرائيلية عام 1982 مقالات متتابعة عن خطة إسرائيل لتقسيم سوريا الى ثلاث دويلات (علوية-سنية-كردية )، بينما يجري الحديث الآن على تقسيمها إلى أربع دويلات أو خمس،
أما العراق الذي لا يعد أفضل حالا من السابقة، فهو يقع أيضا ضمن دائرة الدول المخطط لتقسيمها مسبقا، حيث نشرت مجلة ال ” تايمز” الامريكية عام 2008، مشروع نائب الرئيس الامريكي “جو بايدين”، لتقسم العراق إلى ثلاث فيدراليات رئيسة على أساس طائفي، أما ليبيا القابعة تحت ويلات الحرب القبلية والتنظيمات الإرهابية الممولة، فستطالها سكين التقسيم وتحولها الى شكل جديد يلبي رغبات أجنبية خارجية، وعن لبنان الذي كان ولا زال وسيظل، ساحة قتال بين السنة والشيعة والدروز والعلويين وغيره، يمهد له في الوقت الحالي طريقا للانقسام الطائفي، أما الحرب الطاحنة الدائرة رحاها في اليمن والتي ستودي به إلى دويلات يمنية جديدة، سيمتد تأثير الحرب فيه الى ما وراء حدودها الجغرافية، ليؤثر سلبا على منطقة الخليج العربي الذي يعاني هو الآخر من مطامع غربية وإيرانية للسيطرة عليه ونهب خيراته والتحكم من خلال موقعه في مضيق باب المندب وممر النفط عبر البحر الأحمر.
مصر هي الأخرى على أعتاب مزيد من الانقسامات السياسية والفوضى الداخلية، وستشهد قيادتها اضطرابات قوية ومصادمات عنيفة مع شعبها ستكون كفيلة بتهديد أمنها واستقرارها، أما السودان المقسم مسبقا مرشح الى انقسامات جيو سياسية اضافية، وإذا عرجنا على “أرض السلاطين” تركيا، فسيريعنا ما تشهده من أحداث جسيمة في الآونة الأخيرة جراء تكالب وتؤامر قوى كبيرة وكثيرة للإطاحة بها وإلحاقها بالركب العربي الضعيف والممزق، فمما لا شك فيه بأن التقدم السياسي والاقتصادي الذي أحرزته تركيا في السنوات الأخيرة، وتحولها الى قوة اسلامية اقليمية وازنة في المنطقة والعالم، جعل منها مصدر تخوف وتوجس لكثير من الدول الغربية والعربية، لذى عمدت دول كثيرة الى التآمر عليها لإسقاطها، عن طريق دعم الانقلاب الفاشل الذي تعرض له الرئيس التركي في منتصف الشهر الماضي، والتدبير لعمليات التفجير الأخيرة التي استهدفت أراضيها منذ أيام، والتي أدت الى اختلال في سياستها الداخلية والخارجية، مما يؤكد استحالة عودت تركيا قوية كما كانت قبل الانقلاب، فيما يخص وحدة أراضيها وشعبها وقوة جيشها وعظم دورها الإقليمي والدولي.
أيران التي تظن أنها بعيدة كل البعد عن سكين التقسيم، كونها عنصر أساسي في تأجيج نيران الحروب في المنطقة، ستشهد انقسامات حادة وحروب قاسية، فالدولة التي تبدو موحدة ومسقرة، تعيش في حقيقتها على براكين من خلافات الطوائف والمذاهب والأعراق المختلفة، وتبقى فلسطين الجرح الغائر، التي شرذمتها يد العدو الصهيوني إلى مناطق ال 48 و ال 76 وقطاع غزة، سيشهد شعبها وأرضها ومقدساتها مزيدا من القتل والتنكيل، وتصاعد في خلافات قياداتها الفلسطينية الفلسطسنية.
اذن فالمنطقة العربية والشرق أوسطية ستشهد في سنواتها المقبلة “سايكس بيكو” جديدة يكون فيها الأكلة كثر والتقسيم بشع ومرير، وما هو الا عد سنوات سنوات قليلة قادمة، قادمة، حتى تستقر الدول العظمى على الشكل الجديد للخارطة وفقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية في المرتبة الأولى، يتبعه توزيع “جوائز ترضية جغرافية” للحلفاء الصغار في المنطقة.