هاجم الكاتب الصحفي عبد الحليم قنديل “برنامج الإصلاح” الذي يتبناه عبدالفتاح السيسي للبلاد ووعوده التي لم ينفذها قائلاً: “برنامج خراب بامتياز، وإشعال لحرائق الغلاء، وتكبيل للبلد بالديون الثقيلة، وبيع للشركات والبنوك والأصول الاستراتيجية الكبرى، والعودة إلى مآسي “الخصخصة والمصمصة”، والتراخي في كنس إمبراطورية الفساد، التي نهبت موارد وأموالا تريليونية”.
وفي مقال له على موقع “القدس العربي” دعا إلى استفتاء الشعب مباشرة في برنامج “الإصلاح” مضيفًا: الرضــا أو الغضب لا يظهر بغير البث المباشر لصوت الشعب.
وإلى نص المقال :
ربما لا يكون من جديد كثير في حوار الرئيس السيسي الأخير مع الصحف الحكومية الثلاث، اللهم إلا في فقرة لافتة نشرت على لسانه، يصف نفسه فيها بالمقاتل، ويتحدث عن علاقة المقاتل بشعبه، ويقول فيها بنص ما نشر «أنا مقاتل، لكن ظهر المقاتل وسنده هو شعبه، يظل يقاتل طالما الشعب في ظهره، فإذا تخلى عنه (الشعب) لا يستطيع القتال، المقاتل عنده كبرياء وعزة وشرف، وهذه هي ذخيرته، لا يقبل أن يستمر في القتال إذا ما نزعت منه».
وفي موضع آخر من الحوار المطول، يعود للتشبيه ذاته، وينشر على لسانه أن «المقاتل لا يقاتل وحده، بل وراءه شعب يقاتل».
والكلام في معناه المجرد صحيح تماما، وإن بدت بلاغة صياغته مختلفة عن الطريقة المعتادة لكلام الرئيس، فالرجل يفخر في الحوار نفسه بأنه من «البسطاء»، ويستريح للكلام معهم حين يلتقيهم، وعلى طريقة “ركاب أوتوبيس” في الإسكندرية، قاموا بتحيته على الكورنيش، وقالوا له “ما تخافش”، وهي واقعة ذكرها الرئيس في غير مرة سبقت، أضاف إليها في حواره الأخير خبر لقائه مع بسطاء لا نعرفهم، يغمرهم الرضا عن الأحوال، كما قال الرئيس في حواره، ويؤكدون له أن الناس ليست “غضبانة” ولا “زعلانة” بنص تعبيراته، وهو ما بدا كلامًا غريبًا، منقطع الصلة تمامًا بغضب و”زعل” وسخط الشارع، وهو ما لابد أن أجهزة الرئيس نقلته إليه، اللهم إلا إذا كانوا يخافون من عواقب نقل الحقيقة إليه، وعلى طريقة ما كان يحدث في الأيام الأخيرة للمخلوع مبارك، وبتوصية صارمة آمرة من رئيس ديوانه زكريا عزمى، قضت بحجب ما يزعج عن مسامع سيده، لكن الرئيس السيسي يعود، ويكرر نغمة الرضا “المزعوم” في مواقع شتى من حواره ذي السبع ساعات، ويقول إنه لا يوجد ظهير سياسي للحكم، وهذا صحيح تماما، بل لا توجد سياسة أصلا في القصة كلها، وربما لا يوجد «نظام سياسي» بالمعنى المفهوم، بل حلت فكرة “المقاولة” محل فكرة “السياسة”، وحل معنى “السلطة الأمنية” محل معنى “السلطة السياسية”، وعدا عن التسليم مع الرئيس بغياب الظهير السياسي، فإنه يعتقد بوجود “ظهير شعبي” لا يزال في قوته الأولى، وهو ما جعله يدمج جوابه عن الرئاسة الأولى في جوابه عن الرئاسة الثانية المنتظرة بعد سنتين، فقد سأله رؤساء تحرير الصحف الحكومية الثلاث عن شعوره وقت طلب ترشحه للرئاسة أول مرة، وكان جوابه “أنا رهن إرادة الشعب”، وحين سألوه عن احتمال الترشح للمرة الثانية، كان الجواب “إرجعوا إلى إجابتي السابقة”، وقد يكون من حق السيسي الترشح لمرة ثانية، فالدستور يتيح له هذا الحق، ولمرة ثانية وأخيرة، هذا إن لم يتم العبث بالتعديل في نصوص الدستور، وهذا ما نتوقعه، وقد يحدث غالبا قبل شهور من نهاية فترة رئاسته الأولى في يونيو 2018، وأغلب الظن عندنا، أنه لن يتم فتح مدد الرئاسة لأكثر من مرتين، بل ربما يجري المد في سنوات المدة الرئاسية، وجعلها ست سنوات أو ثماني لا أربع سنوات، وبهدف منح السيسي عمرا أطول في الرئاسة بفترتيها، قد تصل إلى عشر سنوات على الأقل، وهو ما يبرر ويشرح رضا الرئيس والتفاؤل الذي بدا عليه، فقد قال لمحاوريه إنه “متفائل”، وحين هموا بسؤاله عن السبب، فقد قال لهم ببساطته المعهودة “هذا سر بينى وبين ربي”، ولا يحق لنا ـ ولا لغيرنا ـ التدخل بكلمة في علاقة الرئيس بربه، ولا المناقشة من أصله في تدينه وإيمانه ورؤاه الربانية الصوفية، وإن جازت لنا ـ بالطبع ـ مناقشة العلاقة بالشعب لا الرب.
وقد نزعم أن الشعب بغالبه ليس راضيا بحال كما يتصور الرئيس، وأن أمارات السخط بادية على وجوه المتعبين، وأن الغضب مكتوم عند حافة الحناجر، وأن شعبية السيسي تتدنى وتتدهور بسرعة لافتة، وأن الشعبية تذهب عن السيسي، وإن لم تكن تذهب إلى أحد غيره، خاصة مع «صدة نفس» الشعب من الإخوان، هذا هو شعور الشعب المرئي، اللهم إلا إذا كان الشعب الذي يتحدث عنه الرئيس يسكن في مكان آخر، واللهم إلا إذا كنا بصدد شعب آخر غير الشعب المصري، يثق الرئيس في تمام رضاه، وفي أنه سيطلب منه الترشح لفترة رئاسة ثانية، وساعتها يرد الرئيس بالإيجاب، ولأنه دائما رهن إرادة شعبه (!).
وربما لا يكون من جدال كثير في حقيقة كانت مرئية ملموسة، هي أن السيسي حظى في بدايات ظهوره بشعبية هائلة، لم تتح لأحد قبله منذ زمن جمال عبد الناصر، وكان التفسير مفهوما، فقد كان السيسي قائدا للجيش المصري، وهو أعظم جيوش الدنيا في شعبيته بين أهله، ثم أن ضباطا من الجيش كانوا المبادرين في ثورة 23 يوليو 1952، وهي أعظم ثورات مصر والأمة العربية كلها، وبدا الجيش مناصرا لثورة الشعب الجديدة في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، وحين اتخذ المشير السيسي قراره في 30 يونيو، فقد كان في مواجهة مع الإخوان الحاكمين و”الأمريكان” المسيطرين معًا، وهو ما خلق شعورًا وطنيًا شعبيًا تلقائيًا فياضًا، جعل للرجل صورة البطل الشعبي، ثم كان ما كان عبر ثلاث سنوات من إنجازات وإخفاقات، تراجعت معها شعبية السيسى، ثم زادت معدلات التراجع في الشهور الأخيرة بالذات، وهو ما لا يبدو أنه بلغ مسامع الرئيس، ولا أدرك خطره إلى الآن، فهو يقول إنه جاء رئيسًا باستدعاء المصريين، وهذا صحيح، فقد منحه الناس ثقة بلا حدود، ووضعوا أمانيهم وآمالهم الكبرى على عاتقه، وانتظروا الحلم الذي لم يتحقق، ولا بانت أمارات مؤكدة على سيرنا في طريقه، وهو ما يفسر ويبرر انتشار الإحساس بخيبة الأمل في قلوب الناس، وضعف ثقتهم في نداءات الرئيس، وفى دعوتهم للوقوف في ظهر الرئيس «المقاتل»، فقد خرجت عشرات الملايين من المصريين في 26 يوليو 2013، تلبية لنداء تفويض في سطر من كلمة قصيرة مذاعة للسيسي حين كان لا يزال وزيرا للدفاع، وبوسع الرئيس السيسي إن أراد معرفة الحقيقة، أن يكرر النداء للشعب، وليس في سطر واحد مختصر، بل في عشر خطب مذاعة ومتلفزة ومكررة عشرات المرات، ولن يجد عشرات الملايين في الميادين كما جرى من قبل، وربما لن يجد سوى العشرات لا عشرات الملايين، فالناس تمنح ثقتها مرة، ثم تنتظر
وقد انتظر المصريون وصبروا وتحملوا، والرئيس يطالبهم بصبر لا تنفد مواعيده، ويتحدث عن «برنامج إصلاح» هو برنامج خراب بامتياز، وإشعال لحرائق الغلاء، وتكبيل للبلد بالديون الثقيلة، وبيع للشركات والبنوك والأصول الاستراتيجية الكبرى، والعودة إلى مآسي الخصخصة و»المصمصة»، والتراخي في كنس إمبراطورية الفساد، التي نهبت موارد وأموالا تريليونية، لو جرت استعادتها، فهي تكفى لسداد ديون مصر لثلاث مرات على الأقل، وإيقاظ حماس الناس للعدالة المفتقدة، وعبور أزمة الاقتصاد المنهك بسياسة «الأخذ من كل برغوث على قد دمه»، وعدالة توزيع الأعباء والمغارم، وفرض الضرائب التصاعدية على المليونيرات والمليارديرات، ووقف قرارات التجبر على الفقراء والطبقات الوسطى، وهم الأغلبية الساحقة من المصريين، الذين صارت حياتهم اليومية جحيما لا يحتمل، ويريد منهم الرئيس أن يقاتلوا معه ضد أنفسهم وحياتهم، وبدعوى أن ذلك هو طريق الإصلاح الوحيد، وهو ما ينطوى على تناقضات فادحة، فهذه دعوة للانتحار لا للقتال
يجدر بالرئيس أن يتوقف عنها، وأن يستمع لصوت الناس لا صوت نفسه ولا صوت جماعة صندوق النقد الدولي، ولأن الرئيس لا يلتقي الناس، بل عينات منتقاة «مفلترة»، ولم يحضر ولا مرة واحدة لقاء جماهيريا مفتوحا، وبدعوى «المخاوف الأمنية» التي تبالغ فيها الأجهزة عمدا، وتكتفي بإسماع الرئيس ما تتصور أنه يريد سماعه، ولكل هذه الاعتبارات مما يعرفه الناس ولا يعرفونه، فإننا ندعو الرئيس إلى اختبار بسيط، ما دام يعشق البساطة، هو أن يستفتي الشعب مباشرة في برنامج «الإصلاح» المزعوم، ومن حق الرئيس أن يتحمس لما يراه صحيحا، لكــن ليــس من حقه الزعم برضا الشعب، فالرضــا أو الغضب لا يظهر بغير البث المباشر لصوت الشعب، وقد قال الرئيس أنه «رهن إرادة الشعب»، فتعالوا نتبين إرادة الشعب عبر استفتاء عام، يحكم به للرئيس أو عليه، بدلا من الدوران في حلقات ودوائر مفرغة، تنهك البلد وتزيد الأزمة تعقيدا، وتنتهى بنداءات الرئيس إلى مصير الأذان في «مالطا».