كتب الإعلامي يسري فودة مقال نشره، اليوم السبت، تحت عنوان “جذور أزمة حليب الأطفال في الجيش المصري”، استنكر خلاله تدخل الجيش في العمل السياسي والاقتصادي بالدولة، في إشارة إلى ضخ القوات المسلحة 30 مليون علبة لبن للأطفال بالصيدليات،وتتبع فودة جذور أزمة حليب الأطفال منذ الفراعنة حتى اليوم.
بدء فوده مقاله قائلًا “لا يحتاج المصريون هنا إلى مقدمة، فلقد طبقت الأزمة الآفاق قبل أيام قليلة عندما استدعى الأمر تدخل القوات المسلحة لضخ 30 مليون علبة حليب صناعي للأطفال إلى الأسواق بعد خروج نساء يصرخن وأطفال يبكون ورجال يقطعون الطرق”.
وأضاف: “كم الحنق في الشوارع وكم “الألش” (السخرية) على مواقع التواصل الاجتماعي بلغ حدًّا لم يكن أحد يتصور أن يصل إليه المصريون في حديثهم عن مؤسسة غالية على قلوبهم مجتمعيًّا، عزيزة في صلب الدولة المصرية منذ الأزل، لماذا إذًا – بناءً على هذا التحرك السريع من جانب الجيش – يصل المصريون في هذه المسألة إلى قناعتين إحداهما أسوأ من الأخرى، إن كان الجيش يعلم مسبقًا فتلك مصيبة، وإن كان لا يعلم فلماذا يوجد منتَج من هذا النوع تحت تصرفه؟”.
وتابع فودة: “الإجابة على هذا السؤال تستدعي مشهد الفرعون جالسًا على عرشه وإلى جانبه من ناحية كبير الكهنة، ومن الناحية الأخرى قائد الجند، كانت لهذين ولمن يتبعونهما امتيازات استثنائية مقارنةً بجموع الشعب، بقيت هكذا عبر العصور المختلفة، لكنها بقيت استثنائية لقاء استقرار الحكم في ثقافة ولدت ضحية هذه الثنائية، سلطان الدين وسلطان القوة، لا تزال هذه الثقافة معنا حتى اليوم، وهي التحدي الأكبر أمام الثورة الحقيقية الذي يفسر لك كيف تطورت الأمور منذ بداية الربيع العربي”.
وأكمال الاعلامي: “من أبرز الدول التي تأسست حديثًا انطلاقًا من “تسويغ” ديني تحميه القوة باكستان وإسرائيل والسعودية ولبنان، وباختلاف ظروف النشأة وعوامل أخرى انتهى الحال بكل منها إلى شخصية مختلفة، في مصر الحديثة اضطرت القوة إلى التحالف مع الدين أولًا في طريقها إلى الانقلاب على الملكية، وحين نجح الانقلاب وتحول إلى “ثورة يوليو” عام 1952 استفردت القوة سريعًا بالدين وبدأت الجذور الحديثة لأزمة حليب الأطفال”.
كما تطرق فودة إلى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فقال: “في حديث له مع عدد من أبرز الصحفيين عام 1954 – وفقًا لعبد اللطيف البغدادي، أحد أقوى أعضاء مجلس قيادة الثورة – حدد جمال عبد الناصر فريضته الجديدة،، من اليوم.. الجيش لاعب أساسي في السياسة.. ممنوع الحديث في موضوع محمد نجيب.. احترسوا عند الاقتراب من الاقتصاد والعلاقات الخارجية”.
واستطرد : “ركز عبد الناصر أولًا على دائرته المباشرة، الجيش، ومنحهم امتيازات تبدو تافهة بمعايير اليوم، لكنها كانت كبيرة في عيون ضباط من أبناء الفلاحين لامست أيديهم فجأة كنوز الأمراء والباشوات والخواجات، لكنه في الوقت نفسه، بينما اعتمد سياسة التأميم والاشتراكية اقتصاديًّا، بدأ يعزز قدرات القوات المسلحة بالدخول مباشرة في قطاعات اقتصادية استراتيجية تدعم الجيش والمواطن في آنٍ معًا”.
واكمل فوده : “لظروف إقليمية ودولية بعد الحرب العالمية الثانية وبداية انهيار النظام الإمبريالي بمفهومه التقليدي، صعدت كاريزما استثنائية سريعًا بعبد الناصر إلى مسرح السياسة الدولية، انشغل الرجل بالخارج بينما كان ظل القوات المسلحة يتمدد تحت أرجل صديقه المخلص، عبد الحكيم عامر، نحو الحياة المدنية بصورة غير مسبوقة، صار هذا في النصف الأول من الستينات “رئيس الجمهورية بشرطة” (أي مكرر)، وصار تعيين موظف في أي مؤسسة ذات معنى يحتاج إلى تصديق مباشر من الجيش، حتى رؤساء وأعضاء مجالس أندية كرة القدم”.
واردف: “انفلت الحبل على الغارب في عهدي السادات ومبارك، فحُجبت ميزانية الجيش وبدأنا نسمع عن مصانع المكرونة ومحطات وقود السيارات والمزارع والأراضي وغيرها، بحيث يمكن القول إن “بَكْسنة” مصر (تحويلها إلى باكستان أخرى)، قد بدأت فعلًا مع بداية الثمانينات، كل هذا ونحن لا نتحدث عن عمولات صفقات السلاح ولا عن المستشفيات والأندية والمنتجعات واللحوم والمدارس وغيرها التي تخرج جميعًا عن ميزانية الدولة ولا تخضع لأي ضرائب. باختصار، صار مستوى الشفافية في أي شيئ يتعلق بالقوات المسلحة، صفر”.
كما ذكر: “لكنَ مستوى آخر كان متوقعًا قبل أن تتحول المقولة حقًّا من “دولة لها جيش” إلى “جيش له دولة”، وصلنا إلى هذا المستوى بعد الثورة، من المؤلم أن تحليلًا ظاهريًّا لمضمون خطاب المؤسسة العسكرية يقودك إلى استنتاج حالة أقرب إلى الفصام الذهني، فمن “أيها الأخوة المواطنون” أيام عبد الناصر، إلى “باسم الله وباسم الشعب” أيام السادات، إلى “أجيبلكم منين؟” أيام مبارك، إلى “إنتو.. إنتو يا مصريين.. مصر بتقول لكم.. إنتو مش إحنا” هذه الأيام”.
وأوضح: “اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وصلت القوات المسلحة المصرية عبر العقود القليلة الماضية إلى حالة من “الاستقلال الذاتي” أغنتها عن الدولة وابتعدت بها عن مشاكل الحياة المدنية، وكان لابد لهذا من نتائج على مستويات ذهنية ونفسية قادت إلى هذه الحالة من الفصام الذهني الذي حدا بضابط كبير أن يمن على الشعب أمام نواب الشعب قبل أسابيع قليلة عندما قال: “إن الجيش دفع من أمواله لإنقاذ الدولة”، في سياق محاولته إقناع مجلس النواب بالموافقة على مزيد من الاستثناءات”.
وعاد فودة في حديث مرة أخرى إلى أزمة لبن الأطفال فقال: “من هنا يمكن فهم أزمة حليب الأطفال، إذ يقفز إلى الواجهة إعلان مدفوع الثمن على شكل استغاثة من الشركة المصرية لتجارة الأدوية، وهي شركة تابعة للدولة تؤول أرباحها للشعب، نُشرت الاستغاثة في إحدى الصحف قبل نحو عام (20 سبتمبر 2015م) موجهة إلى شخص الرئيس عبدالفتاح السيسي، وتتحدث في جانب منها عن أنه “ورد إلى علمنا أنه سوف يتم إسناد استيراد الألبان عن طريق إحدى الجهات السيادية، وليس لدينا مانع ولكن الأخطر من ذلك أن يتم أيضًا العمل على إسناد عملية التوزيع إلى شركات القطاع الخاص”.
وأضاف: “سمّت تقارير لاحقة هذه الجهة جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، وزعمت أنه دخل وسيطًا من خلال شركة خاصة، هي شركة وادي النيل (تابعة لجهاز المخابرات العامة)، كما زعمت أن صفقة كانت على وشك الانعقاد بين شركة القطاع العام وشركة أجنبية لتوريد احتياجات السوق سُحبت لصالح انعقادها عبر ذلك الطريق الالتفافي بفارق قدره 30 مليون جنيه مصري لا يدري أحد أين ذهب، لا يوجد مصدر واضح يدعم هذا الزعم، وإن كان الزميل الصحفي محمد الجارحي قد نشر أمس على فيسبوك مجموعة وثائق يقول إنها تُعفي الجيش وتفضح فساد وزارة الصحة، من بينها رغم هذا وثيقة تبدو موجهة من جهاز المخابرات العامة إلى مكتب وزير الصحة تحمل موافقة مبدئية من الجهاز على استيراد السلعة المطلوبة، “تمهيدًا للتعاقد بين المخابرات العامة ووزارة الصحة بنظام الأمر المباشر”.
واختتم مقاله بقوله: “ربما يكون هناك من يهمه أن يتأثر جيش مصر سلبيًا لأغراضه الخاصة، سواء خارج مصر أو داخلها، لكنّ دون ذلك كثيرين بين الشعب يحبون جيشهم ويشعرون بحزن شديد على ما وصلت إليه الأمور، ويشعرون أمام هذا كله بقلق أشد على المستقبل القريب”.