مع ترشيح مصر السفيرة مشيرة خطاب لمنصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، يكون عدد المرشحين العرب المعلنين حتى الآن قد بلغ أربعة؛ ثلاثة رسميون: القطري حمد الكواري، اللبنانية فيرا خوري، المصرية مشيرة خطّاب، ومُستقل (أي لم ترشحه دولته) هو اللبناني غسان سلامة. وقد يبلغ عدد المرشحين العرب خمسة إن قام المغرب، كما يتردّد، بترشيح أحد دبلوماسييه. وقد كان اليمني أحمد الصياد انسحب لصالح القطري حمد الكواري، “لأن تعدّد المرشحين العرب لهذا المنصب الدولي الهام قد يؤدي إلى فشل الجميع”، بحسب بيان أصدرته في 26/4/2016 مجموعة سفراء دول الخليج واليمن لدى اليونسكو. ولكن، هل هناك احتمال أو إمكانية لشخص عربي، أو من أصول عربية، لشغل منصب المدير العام لليونسكو؟ وكيف يتم الاختيار من بين المرشحين، وما هي شروط هذا الاختيار؟
لم أستخدم تعبيرات رائجة، مثل هل “سينجح العرب، هذه المرة، في سباق الترشح على رئاسة اليونسكو؟”، لأنها تعبيراتٌ تفترض، أولاً، تماهياً بين شخصِ المرشح وأمته العربية كلها، ولأنها تُسهم ثانياً في ترسيخ مجموعة من الأوهام بخصوص هذا المنصب، وغيره من المناصب الدولية المرموقة، كما سنرى.
والواقع أن كلاماً كثيراً تعوزه الدقة والموضوعية، يُروّجُ بيننا، نحن العرب، بخصوص منصب المدير العام لليونسكو، وبعض هذا الكلام تُغذيه المؤسسات الرسمية التي تعمل على تعميمه، وربما توظيفه. ولكن، ليس من أجل الحصول على المنصب. من ذلك القول، مثلاً، إن ترشيح مصر للمنصب هو لمناكفة المرشح القطري، في حين أننا نعرف أن حكومة مصر تطمح بالمنصب منذ عقود، أي قبل ترشح كل من فاروق حسني (2009) ومشيرة خطاب الآن. أو كقول بعض المصريين، بالمقابل، إن ترشيح القطري جاء لقطع الطريق على المرشح المصري، في حين أننا نعلم أن الحكومة القطرية تعمل، منذ عقود، على تسويق نفسها جديرة بالمنصب من حيث الاهتمام المادي والمعنوي بأهداف اليونسكو، ومن حيث إنها حقّقت جملةً من الإنجازات المرموقة على الصعيد التربوي وفي مجال التراث، خصوصاً.
أوهام رائجة
القول إن تعدّد المرشحين العرب يؤدي إلى خسارة العرب هذا المنصب يُفسح المجال أمام جلد الذات العربية، على شاكلة القول: “نحن العرب لا نتعظ من التجارب والإخفاقات، ولا نستفيد من دروس التاريخ مهما تكررت، وأدمنّا فنون التنازع والاختلاف (…) فللمرة الرابعة على التوالي، يفشل العرب في الإجماع على مرشح لخوض انتخابات رئاسة اليونسكو” (لاحظ تعبير رئاسة اليونسكو، وليس المدير العام). وينسى القائلون بمثل هذا القول إنهم يتحدّثون عن دول، وإنّ للدول حساباتها الخاصة، ومنطقها الخاص، وإنها، كما قال نيتشة يوما، هي “المسخ الأشد برودةً بين المسوخ الباردة قاطبة”. تعارض المصالح بين الدول شأن طبيعي، علينا التعامل معه، من حيث هو كذلك. أما استنكاره وافتراض أنه خاصية عربية فيقود، بالضرورة، إلى نوعٍ مقلوب من العنصرية، تؤصّل الشعورَ بالدونية الذي يُعشش في النفوس ويملأ الفضاء.
أنظرُ إلى التعلق الشديد الذي يُظهره بعضهم بأمر منصب المدير العام لليونسكو (وليس باليونسكو نفسها، فهذه تتعامل دولنا معها باستخفاف مُريب) على أنه يتكّشف، أولاً، عن أزمةٍ تتصل على الأرجح بالعرب أنفسهم، وبموقعهم المتقهقر في عالم اليوم. فكثيرٌ مما يُقالُ، في هذا الخصوص، يشفُّ عن تفكير رَغَبي، أُسّه افتراض أن شغل عربيٍ المنصب يشكّلُ إنجازاً للعرب، وانتصاراً لهم في هذا الزمنِ الوعر، حيث الانتصارات تُفتقد، والخيبات والمُحبِطات تتراكم. ولكن هذا لا يصمد أمام أي تحليل جدي. وسأُبين وجهة نظري عبر الإثبات بالنفي، أي بتفنيد مجموعة من الفرضيات، وبالأصح الأوهام، بخصوص “العرب” ومنصب المدير العام لليونسكو.
أولى هذه الأوهام هو القول إن فشل أحدِ المرشحين العرب في الوصول إلى المنصب يرجعُ إلى منافسة مرشحٍ عربي آخر له. وهذا التعليل ضعيفٌ لا يستقيم إلا في الشكل. فليس تعدّد المتنافسين من العرب هو الذي سبّب في الدورتين السابقتين (1999 و2009) فشل المرشح العربي الأوفر حظاً (السعودي الراحل غازي القصيبي في المرة الأولى، والمصري فاروق حسني في الثانية) في الوصول إلى منصب المدير العام لليونسكو. فالبلغارية إرينا بوكوفا التي فازت بالمنصب، نافسها من بين مجموعتها الانتخابية مرشحان من روسيا الاتحادية وليتوانيا، في حين أن المصري فاروق حسني لم ينافسه أحد من المجموعة العربية، فقد انسحب لصالحه، قبل بدء التصويت، مرشحو اليمن أحمد الصياد والمغرب عزيزة بناني وعُمان موسى بن جعفر. أما المرشح الجزائري محمد البجاوي فلم ترشحه دولته، الجزائر، التي دعمت مرشح المجموعة العربية، أي فاروق حسني، بل رشحته كمبوديا، وخسر منذ الجولة الأولى للتصويت.
نعرف أنك، في الانتخابات، تختار في الجولة الأولى مرشحك الذي تُفضّله. أما في الجولة الثانية، فأنت لا تنتخب، بل في الحقيقة تستبعد؛ فلكي لا يصل المرشّح الذي لا تريده أن يصل أنت تختارُ خصمه. معنى هذا أنك حبّذت أفضل الخيارات السيئة، لأنك تحاشيت ما تعتبره أسوأ الخيارات. هذا هو المعنى الحقيقي لخسارة فاروق حسني. فقد أُخرج من الميدان في الجولة الخامسة التي جرت بين بوكوفا وبينه لا غير، وليس مقابل المرشحين الثمانية الآخرين. بقي أن نعرف أن السبب الحقيقي لترجيح كفة بوكوفا على حسني يُردُّ، بحسب العارفين، أولاً إلى أن بلادها، بلغاريا، كانت في سيرورة انتقالٍ حثيث نحو الديمقراطية؛ وثانياً إلى الدور الإيجابي الذي لعبته بوكوفا، وهي الشيوعية السابقة، في عملية الانتقال؛ وثالثاً إلى أنها امرأة. وهذا ما لا يتوفر لدى فاروق حسني، كما سنرى.
ما تقدم ذكره غرضه توضيح أمرين. أولهما الإشارة إلى أن ما قيل، وما زال يُقال، بخصوص أسباب خسارة فاروق حسني جلُّه جعجعةٌ من غير طحن، ولا جدوى منه للمستقبل. وثانيهما أن الكلام الذي بدأ يتردّد، هنا وهناك، بخصوص “المعركة” الانتخابية المقبلة (خريف 2017) يزرع فيَّ الانطباع غير المريح بأن اللعبة تتكرّر، ولكن بلاعبين آخرين. باختصار: ما تقدم غرضه التحذير.
هل سيتكرّر التاريخ؟
يتصل ثاني الأوهام بطبيعة المنصب. فلا يظنن أحدٌ أن المرشح لمنصب المدير العام لليونسكو يشترط فيه التحلي بكفاءاتٍ ثقافيةٍ ودبلوماسيةٍ وإداريةٍ عالية. فالمنصب هو أولاً سياسي، يعكس في داخله توازنات العلاقات الدولية وحسابات الدول، وخصوصاً النافذة منها، في ما يتعلق بوكالات الأمم المتحدة (الصحة، التغذية، الأمانة العامة، الطاقة الذرية، المفوضية السامية للاجئين ..إلخ)، وبتوزيعها على المجموعات الانتخابية. وينبغي ألا ننسى أن الدول هي التي تنتخب المدير العام لليونسكو، وليست المحافل الثقافية. يجري الاقتراع، أولاً، في المجلس التنفيذي لليونسكو (58 دولة تمثل المجموعات الانتخابية الست، من بينهم حالياً ست دول عربية، هي مصر وقطر والسودان والمغرب وعُمان ولبنان). ولكن قرار التعيين يعود للمؤتمر العام، الذي لا يرفض في العادة توصيةَ المجلس التنفيذي.
ولا يحسبن أحدٌ أن البرامج الانتخابية للمرشحين وتصريحاتهم الصحافية هي التي توجّه آراء مندوبي الدول لحظة الاختيار. فالمندوبون يقولون دائماً ما يُراد منهم أن يقولوه، ويُصوتون، بحسب التعليمات المحددة سلفاً من المناصب السيادية في دولتهم. في فرنسا مثلاً، تقترح وزارة الشؤون الخارجية (إدارة المنظمات الدولية) خطةَ عملٍ يتبناها وزير الخارجية، ويشرف على تنفيذها؛ لكن القرار النهائي يعود إلى رئيس الدولة.
ولا تصوّت الدول للمدير العام لليونسكو بناءً على المؤهلات الشخصية للمُرشح، لأنه كاتب أو فنان أو جامعي مثلاً، بل بالاستناد إلى حساباتٍ باردة، أسّها المصلحة، ومادتها الصفقات، ومسرحها ميدان السياسة الدولية، وهذه مقرّها موجود خارج أروقة اليونسكو وقاعاتها الفسيحة. بيد أن الصحافة تكرّر، مع الأسف، المعزوفة إياها بخصوص البرنامج الانتخابي للمرشحين، وكفاءاتهم الثقافية والعلمية إلخ، كما الحال اليوم بشأن مرشحي الدول العربية.
لا يكرّر التاريخ نفسه، غير أن شيئاً ما يُخلّف فيَّ انطباعاً، بيانه أن الأمور تجري كما لو أنها تتشابه، إن لم تكن تتكرّر. فحين رشحت السعودية في 1999 الوزير والسفير غازي القصيبي لمنصب المدير العام لليونسكو، ركّزت الدبلوماسية السعودية الحملةَ الانتخابيةَ على مؤهلات الرجل الثقافية وكفاءاته العلمية والدبلوماسية، وحشّدت لذلك، بل وجنّدت نخبة واسعة، خصوصاً من المثقفين العرب لدعمه؛ دُبّجت المقالات، ونُظّمت لقاءات وكوكتيلات؛ ثم فاز بالمنصب الدبلوماسي الياباني كويشيرو ما تسوورا. قيل يومها إن سبب فشل القصيبي يرجعُ إلى أن العرب دخلوا المعركة متفرقين، فقد نافس القصيبي المصري إسماعيل سراج الدين (رشحته بوركينا فاسو وليس مصر)، ثم إن القصيبي كان مُرشح الإجماع الوحيد لكل من المجموعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي في آن؛ ولم يصمد سراج الدين وخرج مبكراً من المعركة. وقيل يومها كلام ما زال يتكرّر بخصوص الغرب والشرق والشمال والجنوب. أي إن الغرب لا يريد لعربي أو مسلم أن يقود منظمة دولية مهمة. لكن هذه الحجة لا يمكن قبولها على علاّتها. فقد تبوأ المنصب السنغالي المسلم أحمد مختار أمبو 14 عاماً، ناكف خلالها الولايات المتحدة الأميركية وانكلترا اللتين انسحبتا في عهده. وشغل مصريان منصبين دوليين على غاية من الأهمية، هما بطرس غالي (أميناً عاماً للأمم المتحدة)، ومحمد البرادعي (مديراً عاماً للوكالة الدولية للطاقة الذرية).
نعرف جميعاً أن اختيار المدير العام لليونسكو يتم وفق معايير سياسية في المحل الأول. لكن الغريب أن أنصار فاروق حسني صاروا يتحدثون بعد الهزيمة عن “أن المعركة تم تسييسها”، فخرجت، بالتالي، عن أهداف اليونسكو في التسامح والمشاركة والسلام. ردّت “روز اليوسف” الخسارة إلى “الحرب الحضارية الطاحنة”، حيث “ثبت أن الغرب يقف ضد الآخرين في اللحظة الحاسمة على أساس الدين”. أما جريدة “الشروق” فنقلت عن “مصادر رسمية وإعلامية مصرية” قولها إن الخسارة “تعود إلى مؤامرةٍ حيكت ضد المرشح العربي”، “لمنع وصول مسلم عربي يقف في وجه تهويد القدس”.
ولن ندخل في تفصيلات أسباب خسارة حسني، فهي عديدة. بعضها يعود إلى زلاته الكثيرة. وقد استغلها خصومُه، بطبيعة الحال، للنيل منه. منها واحدة آذته كثيراً في اليونسكو؛ فقد كان صرّح، تحت تأثير الانفعال، أنه سيحرق الكتب بنفسه إن وجدت في السوق. ومثل هذا القول لا يليق بمثقف أو بدبلوماسي يطمح إلى منصب دولي. فحرق الكتب يستدعي في المخيال صوراً غير إيجابية على الإطلاق، غير أن العنصر الأهم، يرجع كما كتب فهمي هويدي، “أنه يمثل بلدا يصنّف ضمن الدول الفاشلة سياسياً، حيث تُحتكر فيه السلطة، ويحكم بقانون الطوارئ منذ أكثر من ربع قرن، وتُقمع فيه الحريات العامة، وهو ما يجرح صورة مرشحها، ويجعل من انتخابه لإدارة اليونسكو اعتداءً على قيمها وإضعافا لرصيدها الأدبي والمعنوي.. فكيف يمكن أن يصبح الرجل مديرا لليونسكو وهو يمثل بلدا يعادي الديمقراطية؟”.
بعد سنوات عديدة في اليونسكو، يعترف زياد الدريس، سفير السعودية في اليونسكو، (وهو بالمناسبة مراقب لبيب ومثقف وكاتب وسفير نشيط)، أن سبب عدم تمكّن العرب من الحصول على منصب المدير العام لا يرجع إلى التنافس العربي، كما كان يظن هو، بل إلى حالة العرب: إذ يدور حديث كما يقول “.. عن كفاءة وجدارة (العالم العربي) الآن، وفي حالته (الخريفية) الراهنة أن يترأس المنظمة الدولية الأولى المعنية بقضايا ضمان وجودة التعليم والتعددية الثقافية والمحافظة على التراث، وهو غير القادر على تسيير شؤون هذه الملفات الأساسية في بلدانه… “.
استحقاق تاريخي؛ ولكن؟
هناك قناعة عربية تبدو كما لو كانت راسخةً، بيانها أن موقع المدير العام لليونسكو ينبغي أن يحتله هذه المرة عربي. فالمنصبُ صار استحقاقاً تاريخياً للعرب، لأن أحداً منهم، بخلاف كل المجموعات الانتخابية الأخرى، لم يحصل عليه. هذا يُرجّح، كما يقولون، حظوظ أيّ عربي في انتخابات الخريف المقبل. لكن هذا الاستحقاق التاريخي ليس شرطاً مطلقاً، أو موجب التنفيذ. ثمة شروط أخرى، منها ما له صلة باستراتيجية المرشح الإعلامية. كأن يتوقف عن تكرار امتنانه لحكام بلاده الذين أتاحوا له أن يترشّح للمنصب، وأن يكفّ عن تقديم نفسه على أنه يمثل بلده أو مجموعته الانتخابية، وأن يُحجم عن القول إن انتخابه سيكون نصراً للثقافة العربية؛ فلكي ينجح، عليه أن يتصرّف وأن يعطي الانطباع بعالمية القيم التي ينتمي إليها، وبأن قيم اليونسكو هي، في الوقت نفسه، قيمه الشخصية، وبأنها ستغتني به في آن. فمن غير المعقول أن يُتاح له أن يتبوأ منصباً دولياً مرموقاً، في حين يعطي الانطباع بأنه محلي الهوى والتفكير والانتماء.
إلى ذلك، أميل إلى الاعتقاد بأن العامل المركزي أو الحاسم في سباق الترشح يكمن في تفاصيل صورة بلاد المرشح، أي في قابلية هذه الصورة، أو قدرتها على الجذب، أو بالأصح على عدم التنفير. فلا يُعقلُ أن يُنتخبَ مرشحٌ تمارس بلاده التمييز العنصري أو التعذيب، وغير ذلك من الممارسات التي تجافي بشكل صارخ أهداف اليونسكو ومبادئها الكبرى. وأرجح أن في هذا الشرط الأخير يكمن سرّ استعصاء المنصب على العرب حتى اليوم.