كنت في أول شهور سجني – الذي تجاوز الثلاثين شهرا ولا يزال مستمرا – حين تمخضت تلك الحروب التي نشبت في أوطاننا فولدت داعشاً، وبدأت جحافل المنتمين لها في الوصول إلى السجون.
وكنت أسمع أحدهم عبر فتحة الزنزانة يصرخ ويقول “باقية وممتدة بإذن الله” فأتساءل حينها من هي الباقية التي تتمدد تلك؟!! حتى مرت الشهور وعلمت أنها تتمدد على أشلاء العقل والمنطق ووحدة المسلمين وأخوتهم كما سأحكي لاحقا…
منذ حوالي أسبوعين نشبت معركة ضروس بين مجموعةٍ من أجناد داعش وباقي العنبر بكل ألوانه وأطيافه بلا استثناء، لم يكن الإخوان وحدهم كما صوروا ، وكادت تلك المجموعة أن تذبح بالمعنى الحرفي للكلمة سجينا بدعوى أنه تطاول على الدولة الإسلامية، فتداعى باقي نزلاء العنبر لإنقاذ المسكين الذي كان فقده لرقبته على وشك.
لم يكن ذلك التداعي وتلك النفرة من الجميع منطقيا، فقد كان يكفي مجموعة تكف أذى الفئة الباغية عن المسكين وتردعهم، لكن المشهد لم يخلو من قدر لا بأس به من التنكيل، فللقصة مشاهد أخرى أوصلتنا لتلك النهاية البغيضة على النفس.
بداية القصة بطبيعة الحال لحظة ما يخط أحدهم بقدمه المنهكة من التعذيب عتبة السجن.
فبمجرد وصوله واستقباله بما يسمى بالتشريفة – وهي فقرة من الصفعات والركلات عافاني الله منها فقد جئت مبكرا يوم جئت فلم يستقبلني أحد – بعد ذلك يسكن في زنازين تسمي بالإيراد وهي زنازين يمنع فيها التريض والزيارات لمدة تصل لشهر، في تلك المدة يتكفل الزملاء القدامى بكل احتياجات النزلاء الجدد من مأكل وملبس وتهيئة للزنزانة (صيانة كهربائية وصرف صحي وغيره…)
يتم ذلك عبر مجموعة من الزملاء تلك مهمتهم. لا يمثل الانتماء لأي من الفصائل فارقاً في التعامل أو درجة الاهتمام (الكل في المحنة واحد) وكلنا جئنا من أجل قضية واحدة.
تمر الأيام وتفتح الزيارات ويسمح بالتريض لتلك المجموعة التي جاءت ترفع راية الانتماء للدولة، فكان أول الاحتكاك هو بيان تكفيرٍ لكل من في السجن، ومحاولة اعتداءٍ على واحد من العاملين في مجموعة الإيراد سالفة الذكر لرده عن ردته.
جرت محاولات يائسة لمحاولة إثنائهم عن هذا التوجه أو حتى تهدئة ناره في ظل محنة الأسر التي تجمعنا جميعاً ولو بدافع أن نكون يداً واحدةً على سجانينا ولكنها ذهبت جميعها أدراج الرياح..
وبعد ما كفرونا عن بكرة أبينا انطلقوا في اوساط الشباب خاصة دعوة للهداية واعتناق الفكرة تلك الفكرة التي اختصرت الإسلام في الجهاد وحصرت الجهاد في إراقة الدماء، قاصدين الشباب الذي تسيطر عليه رغبة الانتقام ممن عذب وسجن وقتل الأصحاب وشرد أهل وهتك الأعراض ولا يجدون عند جماعاتهم جواباً شافياً كيف سنرد الظالم ونأخذ على يده؟
فوجدت هذه القلوب التي تستعر غضباً السكني في ذاك الطريق الذي يتوهج عنفا، واستغلوا حداثة السن ونقص الفهم وعجز المحاضن على الاحتواء، غازلوا رغبة الإنتقام وعبثوا بتلك العقول الغضة، فاستجاب لهم عددا سلكوا طريق الغلو، حتى أن أحدهم كفر أباه وفارقه…
كان ذلك غيض من فيض مبرراً لحالة الحنق والبغض التي ملأت القلوب نحوهم فلم تكن فرصة الفتك بهم في تلك اللحظة لتفوت أحد.
أنتقل إلى المشهد الأخير الذي يلخص المأساة.
فبعد وقت طويل من تلك الحادثة، وبعد ما هدأت العاصفة، تدخلت أخيراً إدارة السجن بعد مشاهدة هنيئة تملؤها الشماتة فقد سمعنا أحدهم يقول باسماً ” خلي الدقون تخلص على بعض”.
و كإجراء عقابي اقتادوا تلك المجموعة من الدواعش حفاة مكبلين من الخلف وأجلسوهم القرفصاء وعمدوا إلى مجموعة من باقي المعتقلين
لمشاهدة هذا المشهد المهين الذي ملأ القلب غصة وأثار الدم غضبا في عروقنا ولسان الحال لماذا فعلتم ذلك ؟!!!
كان الأحرى بنا أن نكون واحدا فى مواجهة تلك الكلاب المسعورة التي تفعل بكم الآن ما تفعل.
لكن ما صعقني أن أحد هؤلاء الإخوة نظر إلينا متوعدا وقال: ” سنتقابل في الخارج وسننال منكم يا مرتدين ” كدت أجن ألم تكن تلك الإهانات التي تلقاها من عدوه وعدوي كافيةً ليوجه غضبه في الإتجاه الصحيح ؟!! ألم يحركه سباب الدين له ولآبائه لكي يلعن ذلك الظالم ويطلق شرر عينيه ووعيد لسانه له هو ليس لشريك محنة ورفيق قضية ؟!! أم أن القضية أصلا ليست واحدة ؟؟