تلقيت نص ما تسمى “مبادرة واشنطن” بشأن الحالة المصرية، من عدد من المشاركين فيها، قبل أن تتسّرب إلى النشر، وقد التزمتُ بما وعدتُهم به، أن يبقى النص طي الكتمان، مع تسجيل كامل اعتراضي على الشكل والمحتوى.
ما نشر مسرّباً لم يبتعد عن النص الذي أعاد بعض المشاركين إرساله إلي، بعد نشره، بل إن المنشور أكثر ضبطاً في الصياغة، في بعض الفقرات، مع الإقرار بحق أصحابها في التراجع والحذف والتعديل، وتغيير المسمى إلى”وثيقة واشنطن”.
وتبقى مجموعة من الملاحظات الموضوعية على “المبادرة”، هذه الكلمة سيئة الدلالة، منذ كانت عنواناً لقفزة أنور السادات في حضن العدو الصهيوني، تتعلق بما ورد فيها:
أولاً: لا توجد كلمة واحدة عن مشروع أو خارطة طريق أو تصور لإنهاء مرحلة الانقلاب، وكأن أصحاب المبادرة واثقون، تمام الثقة، في أن هناك من سيزيح عبد الفتاح السيسي، ويسلم لهم البلد، وينتظر على أحر من الجمر حسم موضوع هوية الدولة، حتى يزيل السيسي.
لم يقدّم لنا المبادرون توصيفاً لآلية وصول السيسي إلى الحكم، هل كان انقلاباً أم أن السلطة هربت من أهلها، وسلمت له نفسها، طواعيةً، في مخدعه؟ أم أن تجاهل ذكر فعل”الانقلاب” يوفر مهرباً من الإتيان على ذكر “المنقٓلٓب عليه”، ووضعه الدستوري ومصيره، فيما لو سقط انقلاب السيسي؟
وجدت في المعروض على الناس ما يشبه توزيعاً لغنائم حربٍ لم تبدأ، ولم يخضها أحد، أو كأنهم يتفاوضون على الاستخدام الأمثل لفراء دبٍّ لم يتم اصطياده بعد، فهذا يريد دستوراً بمواصفاتٍ معينة، وذاك لا يريد الدين عنصراً محدداً في هوية الدولة.. شيء لافت للانتباه، خصوصاً مع تسميتها “مبادرة واشنطن”، الأمر الذي يثير علامات الاستفهام والتعجب من هذه الرغبة في النص على واشنطن، العاصمة الأميركية، بالعنوان، بما يحمله ذلك من دلالاتٍ سلبيةٍ عن الحل الأميركي للمعضلة المصرية، على نحو يذكّرك باللقاء الموسّع لأعضاء جبهة الإنقاذ، قنطرة السيسي للانقلاب على الرئيس المنتخب، في واشنطن بدوائر الضغط الأميركية، قبل شهور من تنفيذ الانقلاب.
أذكر أن حواراً من هذا النوع دار، وكنت حاضراً فيه، في واشنطن قبل بضعة أشهر، وقلت إننا بحاجة للقاءٍ يضم كل ألوان الطيف المناهض للانقلاب. لكن، بعد أن تتحاور المجموعات المستقرة في كل بلدٍ على حدة، وتنتهي إلى رؤيةٍ موحدة، على أن يلتقي الجميع فيما بعد، لكن ليس في العاصمة الأميركية بالذات.
والحاصل أن حلول واشنطن جغرافياً، وعنونتها فيما تسمى”المبادرة”، توفر وجبة شهية لإعلام عبد الفتاح السيسي من مكونات نظرية المؤامرة والمخطط الأجنبي.
أضف إلى ذلك أن قسماً من المشاركين اشتهروا وجوهاً شديدة الحماس للسيسي وانقلابه، وأظن أنه من غير المنطقي أن يصبح “نافخ كير يونيو” فجأة “حامل مسك يناير”، الذي ينبغي أن نسير خلفه صامتين.
في النص ركاكة ورطانة في صياغة البنود، وفيه أيضاً اعترافٌ بثورية وشرعية “30 يونيو” في 2013، وهو ما يتجاوز أحلام عبد الفتاح السيسي شخصياً، إذ لا يكفّ عن محاولة إسباغ شرعيةٍ على الثورة المضادة التي حملت الانقلاب فوق ظهرها في ذلك اليوم، يوم نحر ثورة يناير.
يتحدّث النص في بنده الثامن عن “محاكمة من قامت ضدهم الثورة وكل من استغل 30 يونيو في الانقلاب على ثورة 25 يناير”، وكأن الثلاثين من يونيو نفسه لم يكن انقلاباً على ثورة يناير.
في موضوع الهوية، تأتي عبارةٌ لا تجد لها مثيلاً في دساتير أعتى العلمانيات في الكون، عندما يقال إن الدولة “تقف على مسافةٍ واحدة من جميع الأديان”. ومع إيماني المطلق بحرية العقيدة، وعدم التمييز على أساس الدين أو العرق، إلا أن كل دولة في العالم لا تخجل من النص على دينها، الذي تؤمن به الأغلبية الكاسحة فيها، ولو نظرت في دستور الدنمارك، مثلاً، ستجد أنه ينص فى المادة 4 على”أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية للدولة”. وفي المادة 6 “أن الملك يجب أن يكون منتمياً للكنيسة الإنجيلية”، فيما تقول المادة 66 صراحة “إن دستور الكنيسة الرسمية يجب أن يطبق بالقوانين”.
أيضا،ً ستجد في القانون البريطاني نصوصاً تشدّد على بروتستانتية الدولة، والملك، ويعتبر صاحب السيادة العليا (الملك أو الملكة) في بريطانيا هو الحاكم الأعلى للكنيسة الإنجيلية، بما يعني أن الدين حاضرٌ في تحديد هوية الدولة، غير أن “أصحاب مبادرة واشنطن” يستنكفون وجود أية ملامح للدين في تحديد هوية الدولة.
يبقى أن من حق كل شخص، أو مجموع، أن يجتهد ويصوغ ما يشاء بالطريقة التي يشاء، من دون أن يخوّنه، أو يكفّره، أحد. لكن، في المقابل، من حق الجميع أن يبدوا رأيهم في المعروض عليهم، وإن رأوا أن فيه عطباً وتهافتاً وركاكة، فهذا لا يعني إساءة أو تكفيراً أو تخويناً لصانعيه، ومن يعتبر النقد، بكل درجاته من العنيف حتى العليل، تخويناً، فهو يمارس الابتزاز بمهارة.