في كل مرةٍ ينفتح فصل جديد في قضية الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، وتنفتح الأمور التي تتعلق بنهج الداخلية المصرية وبلطجتها في إدارة الأمور، فهي مطلقة اليد والقوة والقدرة في أن تقول ما تشاء، وتفعل ما تريد من دون أدنى حسابٍ، وفي حالةٍ من تأمينها وتحصينها ضد أي عقاب، ينفتح هذا الملف، فيشير إلى الكيفية التي يدرك بها أهل “الداخلية” والأجهزة الأمنية حقيقة الإنسان وحرمة كيانه وحقوقه وحريته وكرامته. تبدو تلك المفردات غائبةً، لا تقيم لها “الداخلية” وزناً، ولا ترد على عقلها فقط. قد تتغنى بمثل هذه الكلمات من كونها تراعي ذلك، وأنها حامية الحمى لحقوق الإنسان. لديها تلك الحقوق، ضمن تصريحاتها الاحتفالية، محفوظة على الرغم من أن انتهاكات الداخلية اليومية كل يوم في حق المصريين والأجانب على حد سواء. مشاهد متتابعة ومتكرّرة نراها كل يوم رأي العين، وخطاب فاجر مبرّر يقوم على قاعدة الاستخفاف بالعقول، قبل الاستخفاف بالأنفس وعموم الناس. نهج يعبر عن مؤسسةٍ يقولون إن وظيفتها الحفاظ على الأمن ونشر الأمان، فإذا بها، في أفعالها وسياستها، تمارس كل ما من شأنه أن يروّع الناس ويفزعهم، فيشكلون بذلك اليد الباطشة في جمهورية الخوف في دولةٍ بوليسيةٍ، تحكمها فاشية عسكرية.
هذا هو النهج الذي يتعلق بالداخلية المصرية. قالت، في 24 من مارس الماضي/ آذار الماضي في بيان رسمي، إنها “ضبطت تشكيلاً عصابياً تخصص في سرقة الأجانب واختطافهم، وأنها عثرت على متعلقات جوليو ريجيني في حوزتهم”. اعتبر هؤلاء، في ذلك الوقت، هذا الخطاب وهذا البيان نهاية المطاف في إغلاق ملف ريجيني، وذكرت، في البيان، أن التشكيل العصابي تخصص في سرقة الأجانب واختطافهم. كان ذلك بمناسبة ملف ريجيني، وتوجيه الخطاب إلى السلطات الإيطالية، بأنهم استطاعوا أن يمسكوا بتلابيب هؤلاء الذين تورّطوا في قتله. وأوضحت “الداخلية” في بيانها مبينةً همتها وجديتها على ما أرادت أن تشيعه “إنها تمكّنت من استهداف هذا التشكيل العصابي بنطاق القاهرة الجديدة، تخصص في انتحال ضباط شرطة، واختطاف الأجانب وسرقتهم بالإكراه ومصرعهم جميعاً، عقب تبادل الأعيرة النارية مع قوات الشرطة”، يتضح في ذلك الأمر أننا، على حد تعبير ذلك البيان، أمام تشكيل عصابي، وأن هذا التشكيل ينتحل صفة ضباط شرطة، وأن هذا التشكيل تخصّص في اختطاف الأجانب وسرقتهم بالإكراه ثم، في النهاية، كان هناك تبادل لإطلاق النار، أدى إلى مصرعهم جميعاً.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنها رواية ملفقة بلا شهود، وأن علينا أن نصدق “الداخلية” في كل ما تقول، وعلى السلطات الإيطالية أن تغلق ذلك الملف بلا رجعة، فعلى طريقتهم أتى القول الفصل في بيان بلطجية الداخلية. رواية تحمل، في ذاتها، عناصر فبركة، وتحدث كثيرون، في ذلك الوقت، عن لا معقوليتها. أكثر من ذلك، لم تصدّق السلطات الإيطالية المعنية بهذا البيان هذه الرواية، وبدأت تطالب السلطات المصرية بالبحث في الطريق الصحيحة. وترافقت مع ذلك تسريباتٌ نقلتها صحف إيطالية، ومواقع كثيرة على شبكة المعلومات، تؤكد أن “الداخلية”، بضباطها وبأوامر من شخصيات نافذة، نفذوا عمليات القتل والتعذيب لريجيني. وبعد خمسة أشهر للبيان الأول للداخلية، وما تبعه من بيانات وتصريحات، تحاول تحميل الخمسة المقتولين جريمة قتل ريجيني، خرج بيان النيابة العامة، في يوم 9 سبتمبر/ أيلول الجاري، ليقول، بكل بساطة، إن “الشكوك حول تورطهم في مقتل الباحث الإيطالي ضعيفة”.
ماذا يمكننا أن نقول بعد ذلك؟ استخفاف بتعذيب باحث إيطالي وقتله على يد بلطجية الداخلية والأمن، سلطات أرادت أن تعرف الأسباب الداعية التي ارتبطت بقتل أحد مواطنيها وأحد أبنائها على أرض مصر، وداخلية لا تملك أدنى درجات المصداقية، فتفبرك روايةً غير حقيقية، وخمسة من المصريين، لقوا حتفهم برصاص الداخلية، بدعوى قتلهم هذا الباحث الإيطالي. جريمة مركّبة نفهم منها أن جهاز “الداخلية” الذي أراد أن يغطي على جريمته، قام بجريمة أفدح، بقتل خمسةٍ آخرين، قال إنهم من ارتكبوا جريمة قتل الأول. الجريمة المركبة، يا سادة، إنما تقع في حقيقة الأمر في إدراك “الداخلية” قيمة الإنسان والإنسانية لقيمة النفس البشرية، لقيمة الروح المحرّم قتلها إلا بالحق، لقيمة الكرامة والكيان. إنها تجعل القتل بلا جريرةٍ حرفتها، لا تدقّق ولا تحقق. الرصاصة أسرع من مجرد التفكير في ذلك، القتل بالشبهة بل ومن غير شبهة، ماذا يضيرهم في قتل ريجيني، أو في قتل الخمسة، طالما أمنوا الحساب، ولم يطلهم أي عقاب، هذه قضية كبرى، قضية إدراك “الداخلية” معنى الإنسان والإنسانية.
من ارتكب تلك المجازر، ومن قتل الناس تحت التعذيب، ومن اختطفهم قسراً ثم قتلهم، ومن اتخذ القرار في التصفية الجسدية لشباب مصر من دون أي تحقيق، إنما يعبر عن مقام المواطن والإنسان في فكره وإدراكه، إن كان لديه فكر وإدراك. استخفاف وجبروت وبلطجة في الفعل، وتبرير وتغرير وتزوير في القول إنه حال “الداخلية”، حينما تعالج الأمور، وتحاول أن تبين القضايا، وما ذلك ببيان، إنما هو تعمية وتعتيم في محاولةٍ لتبرير فعلٍ لا يبرّر، وقول لا يقبل.
ومن جملة الإفك ومنظومة الكذب التي اقترفوها أن المفاجأة التي كشفتها زيارة مسرح الجريمة، بحسب ما أكّده شهود عيان، أن هؤلاء، في تصويرهم الحادث، إنما عبروا عن قصة وسردية مفبركةٍ، ليؤكد الجميع أنه لم يحدث إطلاق نار بين الميكروباص وقوات الأمن، وأنهم كانوا عزلاً، وقامت قوات الأمن بتصفيتهم فور إيقافهم، وكأنها عملية مدبرة واتخذ فيها القرار من قبل، وأن الحادثة وقعت في الصباح الباكر، وظلت الجثث حتى الساعة 12 ظهراً. واللافت أن جثتين وجدتا على الأرض بجانب الميكروباص، على يد أحد الضباط الذي كان يقلب الجثث بقدمه من غير اكتراث، وبعد أن قالت “الداخلية” إن عدد الذين قتلتهم خمسة، خرجت في المساء لتقول إن عناصر التشكيل أربعة، وليسوا خمسة وقتلوا جميعاً، وأنه تم العثور على جثة مجهولة الهوية مقتولة برصاصة في الرأس، يجب البحث للتوصل إلى شخصيتها، كانت لإبراهيم فاروق، سائق الميكروباص “العريس اللي بدلته بتجهز”، بحسب والدته. هذه الرواية التي نقلتها وروايات أخرى مفصلة تحكي سردية أخرى، أثبتها “موقع البداية” في تقرير مهم، نراه الأشمل بشأن هذه القضية، غير سردية “الداخلية” المزورة والمفبركة.
في النهاية، يجب أن نتحدث عن ذلك الموضوع المهم، كيف يمكن أن نداوي رواية قتل زائفة للبحث الإيطالي، جوليو ريجيني، برواية قتل مزورة لراكبي الميكروباص الخمسة؟ إنه الاستخفاف بحرمة الإنسان، إنها بلطجة “الداخلية” التي تدّعي أنها تحفظ الأمن وتشيع الأمان. الإنسان ليس له من سعر أو أثمان، إنها لا تقيم وزناً لكرامة الكيان والإنسان.