يصف شباب أواخر الستينيات زمانهم بأنه زمن الصدمة؛ حين أضحى الحلم القومي العربي الجميل كابوسا مع دك الطائرات الإسرائيلية للأراضي العربية واحتلال سيناء والجولان والقدس. هام كثيرون على وجوههم في الشوارع كأنهم سكارى وما هم بسكارى ولكن هول الهزيمة شديد. تعرض حتى العرب المغتربون للسخرية في الدول الأخرى بشكل عنصري وشهد هؤلاء أياما قاسية عليهم حين زلزلت أرض الوطن زلزالها وامتد الزلزال للمقيمين في الخارج. حينها برزت أسئلة من قبيل: أين القومية؟ أين العرب؟ أين السلاح؟ أين الجيوش؟ أين سيادة الرئيس المفدى؟ ووصلت للسؤال أين الله؟
وحين غابت السكرة وجاءت الفكرة، أجرى الجميع مراجعات قسرية مكرهين. فكثير من شباب التنظيمات القومية والطليعية ذهبوا إلى التيار الإسلامي ينشدون البديل، وكثير من شباب اليسار خرج ثائرا في الشوارع. حتى الدولة مع مرور الوقت اضطرت لتغيير جلدها. وحين سار الرئيس الراحل أنور السادات على خطى عبد الناصر بممحاة لم يكن سوى أحد تجليات المزاج العام المنتشر وقتها أكثر من كونها مجرد رغبة شخصية وهو الذي كان نائبا لعبد الناصر قبل وفاته.
ترك كثيرون العمل السياسي والعام وانكفوا على أنفسهم وحياتهم الخاصة. وذهب الإسلام الفكري والحركي بطبعته كمشاريع تحرر ودخل إلى مرحلة جديدة ينطلق فيها من الإيديولوجيا وإعادة إنتاج النصوص الفكرية السابقة في واقع مختلف. التحولات شملت اليساريين أيضا وتأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
هذا الجيل حين يتذكر صيف 1967 تمتلئ عيناه بالدموع. يستحضر ألما وخيبة أمل منقطعة النظير. جيل الحيرة بين الأمل وفقدان الرجاء. جيل يتجنب الحديث في هذا الموضوع لأنه شائك حتى هذه اللحظة.
ولم يختلف صيف 2013 عن صيف 1967عند كثيرين. جيل كامل من شباب الثورة وشباب الإسلاميين شاهدوا حلم الديمقراطية يتبخر شيئا فشيئا ويعود العسكر غير مبالين بدماء رابعة وسوريا وليبيا واليمن. تحولت كلمات المديح في وعي شباب 2011 الثوري النقي الحالم الذي سينهض بالعالم العربي إلى هجاء ومواساة ولوم وتقريع. جيل تعرض لعملية بسترة بحرارة المديح وبرودة الهجاء خلال أقل من ثلاث سنوات. وبرزت أسئلة من قبيل أين الديموقراطية؟ أين حقوق الإنسان؟ ما هو المشروع الإسلامي؟ أين الخلل؟
ولا يزال هذا الجيل يبحث عن بوصلته وسط المتغيرات المتسارعة. وسينكفئ بعض رموز هذا الجيل على حياتهم الخاصة أيضا تاركين العمل العام والسياسي بكل تعقيداته. وسيتحول البعض منهم من اليمين إلى اليسار والعكس. ولن يبقى شباب الإسلاميين بطبعة التسعينات ومطلع الألفية وسيتغير شباب اليسار والقوميين.
كل شيء يسير نحو التحول لكن ببطء. سيقترب الليبراليون أكثر من التجربة الغربية مع هجرة كثير منهم إلى هناك وينضج فهمهم للديموقراطية وحقوق الإنسان وهم يلمسون تحولاتها الأخيرة من صعود التيار اليميني في أوروبا ومعارك المسلمين هناك لنيل حقوقهم وأميركا الجديدة في ظل كلينتون أو ترامب. وستغير الإقامة في المجتمع التركي من نظرة كثير من شباب الإسلاميين للحياة والآخر. وقد يشكل هؤلاء وأولئك جاليات مستقرة تؤثر في تلك البلدان مع الوقت، فمن المحتمل جدا أن لا يعودوا إلى مصر أو ليبيا أو اليمن بعد أن تستقر بهم الحياة هناك ويرتبطون مهنيا وعائليا حتى لو تحسنت الأوضاع في بلدانهم الأصلية.
إن الجيل الحالي شهد من العنف أضعاف ما شهدته الأجيال السابقة وسيبقى يقاوم كما قاوم أسلافه، غير أن تحولاته ستختلف عن تحولاتهم. سيظهر لدينا جيل بأفكار جديدة بعد عدة سنوات وستختفي التقسيمات التقليدية للتيارات الفكرية والسياسية. وهو ما يمهد التربية لتغيرات أكبر في الدول العربية.
فبعد نحو نصف قرن من هزيمة يونيو 1967، أثبتت الأفكار أنها قادرة على عبور حدود الدول العربية رغم الأسلاك الشائكة وبوابات ضباط الجوازات. فطبيعة انتقال مرارة الهزيمة العابرة للأقطار تماثل انتقال فرحة الثوار العابرة للحدود عام 2011، وستظل آلية الانتقال هذه ربما هي الثابت الوحيد في عالم يتغير فيه كل شيء.