منذ قبول أغلب قيادات الحركة الإسلامية في مصر التصالح مع المجلس العسكري بعد تنحي مبارك، ونحن نسمع دائما منهم أننا في حالة تشبه صلح الحديبية، بحيث ينبغي علينا السكوت عن كثير من جرائم الجيش، في مقابل تسليمهم السلطة للبرلمان والرئيس المنتخبين، ورغم المخالفات المتكررة من المجلس العسكري لبنود الاتفاق، ظلت التنظيرات تحذر من عاقبة التصادم معه.
والذي يذهب إلى كتب الحديث والسيرة ليقرأ بنفسه قصة صلح الحديبية كاملة، يُفاجَأ بأن هناك مشهدا كاملا ممنوع من العرض (رغم أهميته)، وهو الجزء المتعلق بأبي جندل وأبي بصير – رضي الله عنهما- وسأحاول هنا إلقاء الضوء على قصة هذين الصحابيين الجليلين، وما يمكن أن نستفيده منهما في الظروف الحالية.
أما الأول فهو كما في طبقات ابن سعد (أبو جندل بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس، أسلم قديما بمكة فحبسه أبوه وأوثقه في الحديد ومنعه من الهجرة).
وقد تمكن أبو جندل من الهرب وحضر بقيوده إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- بالحديبية حال كتابة بنود الصلح، حيث كان فيه هذا البند المجحف الذي يقضي بوجوب رد النبي – عليه الصلاة والسلام- لأي مسلم يأتيه من قريش، وكان موفد قريش وقتها هو سهيل بن عمروk والد أبي جندل.
وتعجب المسلمون من الموافقة على رَدِّ من جاء مسلما إلى الكفار، وتكلم عمر بن الخطاب كلاما شديدا مبديا اعتراضه على قبول هذه الشروط، معتبرا إياها (دَنِيَّةً في الدين).
وطلب سهيل من رسول الله أن يبدأ تنفيذ الاتفاق بتسليمه ابنه (أبو جندل). فقال: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: “إنا لم نقض الكتاب بعد”. فقال: فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبدا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم “فأجزه لي”، قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: “بلى فافعل”، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أُردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول له: “يَا أَبَا جَندَل اصْبِر واحْتَسِب، فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ ولِمَن معكَ من المُسْتَضْعَفِينَ فرجًا ومَخْرجًا”.
فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.
وأما الثاني فهو أبو بصير عتبة بن أسيد الثقفي، وقد استطاع أبو بصير الفرار من مكة والوصول إلى المدينة بعد عودة النبي عليه الصلاة والسلام إليها، فأرسلت قريش رجلين في طلبه، فتم تسليمه لهما، فقام بخداعهما أثناء إحدى استراحات الطريق، فقتل أحدهما وهرب الآخر فلاحقه أبو بصير إلى المدينة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لقد رأى هذا ذُعْرًا” (أمرا مفزعا)، فقال الرجل المشرك: “قُتِلَ والله صاحبي وإني لمقتول”.
فدخل أبو بصير على إثره، فقال عليه الصلاة والسلام: “ويلَ أُمِّهِ، مسعر حرب، لو كان له أحد” أي (لو كان معه رجال لَشَنَّ حربا).
فلما أيقن أبو بصير بأنه سيتم تسليمه، خرج حتى أتى مكانا يُسَمَّى (سيف البحر) ولحق به أبو جندل، وهرب كثيرون من مكة ممن أسلموا فلحقوا بهما، حتى اجتمع حوالي سبعون رجلا، فقطعوا طريق قوافل قريش إلى الشام، وقَتَلوا وأخذوا أموالا كثيرة من المشركين، حتى أرسلت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم تناشده اللهَ والرحم أن يقبل المسلمين في المدينة ولا يرد إليهم أحدا.
عادت هذه القصة (التي روى البخاري أغلب تفاصيلها) لتراود ذهني عندما رأيت بعض قيادات الجماعات الإسلامية وهم يتربصون بكل من يريد الخروج على النسق الذي رسموه هم للتعامل مع إجرام العسكر في مصر، وقد برز جدا هذا التربص عند الشيخ عاصم عبد الماجد بشكل خاص، رغم أنه كثيرا ما يدعو لتصدر الشباب وتغيير القيادات التي أوصلتنا إلى هذه الحالة، فإذا برز فريق من الشباب أو أحد ممن يعبر عن رغباتهم وطموحاتهم.. كان رد الشيخ عاصم عليه مباشرا وشديدا، ولعل ما قاله (ويقوله) ردا على بعض البارزين أمثال المستشار وليد شرابي، الإعلاميين آيات عرابي وصابر مشهور، المهندس محمود فتحي، الباحث محمد إلهامي (وغيرهم)؛ دليل واضح على ما أقول.
وأنا هنا لا أريد الخوض في موضوع صواب أو خطأ هؤلاء فيما يقدمونه من أطروحات وأفكار للخروج من الأزمة الحالية، ولكني أريد التأكيد على أهمية فتح الباب لمسارات وخطابات إعلامية مختلفة عن الإطار العام الذي لا تكاد القيادات الكبيرة تحسن غيره.
وبالنظر لقصة هذين الصحابيين الجليلين، إضافة لموقف عمر بن الخطاب (رضي الله عنهم جميعا)، نستطيع أن نلمس قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- بردود الفعل الفطرية تجاه صلف قريش وتجبرها، بل لعلنا نستشف وجود بعض الدعم المعنوي والمادي من رسول الله والمسلمين بالمدينة للتحرك المفاجئ القوي من أبي بصير عندما قتل أحد المعتدين على حُرِّيَّته، ولاحق الآخر الذي فَرَّ إلى المدينة، وذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: “لو كان له أحد”، كما أن صنيعه هذا كان سببا مباشرا في إلغاء البند الجائر الذي يمنع بقاء المسلمين الجدد داخل الدولة الإسلامية.
وأقتبس هنا ببعض التصرف من كلام ابن حجر في فتح الباري ما يؤيد هذه المعاني التي ذكرتها، حيث قال: (وفيه أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على أبي بصير قتله العامري ولا أمر فيه بقود ولا دية، قوله [ويل أمه] كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، [لو كان له أحد] أي ينصره ويعاضده ويناصره، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم يجوز التعريض بذلك لا التصريح كما في هذه القصة).
وأريد أن ألفت هنا الانتباه إلى تحركات الأستاذ حازم أبو إسماعيل (صاحب التوصيف الشهير للمجلس العسكري بأنهم ذئاب وثعالب)، وكيف كانت تحركاته (خارج السياق) هي الأبرز والأصح بشهادة هذه القيادات – بل – بشهادة الشيخ عاصم نفسه، وما محمد محمود وكسر قيادات العسكر وإجبارهم على إعلان موعد انتخابات الرئاسة منكم ببعيد.
كما أَلْفِتُ لحسام أبو البخاري وخالد حربي وغيرهم من الذين برزوا بأطروحات وأفكار خارج النسق العام وقتها.
فإذا عجزت القيادات عن صناعة بدائل لأشخاصهم ولمساراتهم، فليدعموا هذه البدائل التي ظهرت كنتيجة تلقائية لحالة الفشل المسيطرة على المشهد، فإن رفضوا.. فليس أقل من السكوت عنها، وليسع الفرد مالا يسع الجماعة.