بادعاء حماية البلاد من الفوضى والإرهاب وظلامية الدولة الدينية، انقلب الجيش المصري على الإجراءات الديمقراطية في صيف 2013 وعزل الرئيس المنتخب. أعلن الجنرالات، ومن ورائهم نظراؤهم في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وبحوزتهم أجهزة إعلامية عامة وخاصة أحكموا السيطرة عليها، عزمهم تأسيس نظام حكم حديث ومدني يفصل الدين عن السياسة ويمكن مسؤولين منتخبين من إدارة شؤون مصر.
احتفت النخب العلمانية، ليبرالية ويسارية، بإعلان الجنرالات واعتبرته بداية انعتاق البلاد من أخطار الخلط بين الدين والسياسة وخطوة كبرى باتجاه تحديث الدولة ومؤسساتها.
تناست النخب العلمانية عامدة التاريخ الممتد من خمسينيات القرن العشرين إلى ثورة 2011 والذي تشهد حقائقه على كون حكم الجنرالات لم يؤسس لا لدولة حديثة ولا أنجز فصلا بين الدين والسياسة، وروجت بكثافة لمقولات صريحة الطبيعة الاستبدادية من شاكلة مصر تحتاج إلى «حاكم عسكري قوي يقضي على الفوضى والإرهاب» ولن تنهض البلاد سوى على يد «ديكتاتور مستنير» والجيش حتما سيعهد لمدنيين منتخبين بالحكم بعد فترة انتقالية توضع بها أسس «الدولة الحديثة» وغيرها.
لم يمثل ترويج النخب العلمانية للاستبداد سوى استمرارية لموقفها المضاد والرافض للإجراءات الديمقراطية حين جاءت برئيس منتخب من جماعة الإخوان المسلمين، وكمن من وراء الرفض خوف العلمانيين العميق من «المجتمع غير الرشيد» المنحاز بأغلبيته إلى التيارات والحركات الدينية والقابل للتأثر «بخرافاتها» ولأطروحاتها «السطحية» عن قضايا السياسة والحكم.
في أعقاب صيف 2013 تمسك علمانيو مصر بتأييد حكم الجنرالات على الرغم من الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان والحريات، وعلى الرغم من ثبوت رغبتهم في السيطرة على مقدرات البلاد لأبعد من فترة انتقالية وهيمنتهم هم ونظرائهم في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتهميشهم شبه الكامل للمدنيين.
وفي 2016 لم تزل النخب العلمانية، باستثناءات محدودة، تناصر حكم الجنرالات ولا تبدو منزعجة على الإطلاق من التوظيف الممنهج للدين في السياسة. فالمؤسسات الدينية الرسمية، الإسلامية والمسيحية، تصدر بيانات التأييد لرئيس الجمهورية ولحكومته دون توقف، والرئيس المفدى بدوره يخرج على الرأي العام المحلي والعالمي بمقولات متواترة عن فريضة الاعتدال الديني وضرورة محاربة التطرف الإسلامي وعن مسؤوليته هو ومؤسسات الدولة عن صون الفهم السليم للدين.
وفي 2016 لم تزل النخب العلمانية على مناصرتها لحكم الجنرالات على الرغم من توريطهم الكارثي للكنائس المصرية في قضايا السياسة واستخدامهم للرموز الدينية ولأدوات الحشد الطائفي لصناعة صورة «البطل المخلص» و»الزعيم المحبوب» لرئيس الجمهورية خارج البلاد.
وفي 2016 لم تزل النخب العلمانية على مناصرتها لحكم الجنرالات بينما السلطة التنفيذية ومن ورائها السلطة التشريعية المستتبعة تمرر قانونا «لبناء وصيانة الكنائس» يعصف بقواعد المواطنة ويتعاطى مع المواطنين المصريين ذوي الهوية الدينية المسيحية كرعايا دينيين تتحدث باسمهم الكنائس ويخصص لدور عبادتهم قانون منفرد عوضا عن التعامل مع جميع دور العبادة وفقا لقاعدة المساواة بين المواطنين وحرية ممارسة الشعائر الدينية دون تمييز.
وفي 2016 لم تزل النخب العلمانية على مناصرتها لحكم الجنرالات يوسعون من دور المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الحياة الاقتصادية، فضلا عن الصعود غير المسبوق لأدوار العسكريين والأمنيين والاستخباراتيين في المؤسسات والمصالح العامة ـ والتي بلغت الحدود القصوى بإطلاق حملة «الجيش هو الحل» لتبرير استبعاد المدنيين من مواقع المسؤولية والآتيان بالجنرالات الذين لا يملك الناس محاسبتهم.
وفي 2016 لم تزل النخب العلمانية على مناصرتها لحكم الجنرالات على الرغم من زجهم بمصر إلى هاوية الخلط بين الدين والسياسة وتغييبهم الفعلي لفرص بناء الدولة الحديثة والمدنية.