أعيش مع أسرتي في منزل من دورين وحديقة صغيرة وقد لاحظت مؤخرا وجود حشرات في المنزل فبحثت في الجريدة حتى وجدت شركة لرش المبيدات، اتصلت بمسئول الشركة وأعطيته مساحات المنزل بدقة وسألته عن تكلفة رش المنزل فأكد لي أنها ستكون مبلغ الفين جنيه. في الموعد المحدد جاء مندوب الشركة، على جبهته علامة الصلاة، انتهى من رش المنزل ثم قال لي:
ـــ المنزل استهلك كمية كبيرة من المبيدات. الحساب أربعة آلاف جنيه.
ذكرته بأنه كان يعرف مساحة المنزل واتفق معي على الفين جنيه فقط. راح يجادلني لمدة ساعة وفي النهاية دفعت له ثلاثة آلاف جنيه لأتخلص من هذا الموقف السخيف. هذا الخداع في التعاملات اليومية حدث لي عشرات المرات في مصر، أي اتفاق يمكن التراجع عنه وأي شخص ممكن يغشك في السعر أو الخدمة التي يقدمها. لقد انتشر الغش كالوباء بيننا بدءا من الغش الجماعي في الامتحانات وغش قطع غيار السيارات والبنزين ومواد البناء والأغذية والأدوية وحتى اللحوم الفاسدة التي يتم ضبطها في أرقى المطاعم.. هذا الانحدار المؤسف في الأخلاق يصاحبه حرص بالغ على مظاهر التدين. هنا نجد أنفسنا امام ظاهرة غريبة هي الانفصال الكامل بين العقيدة والسلوك، بين الدين والأخلاق. لقد تم تحويل الدين إلى مجموعة إجراءات كلها طقوس وعبادات: صلاة وصوم وحج وعمرة وحجاب ونقاب.. هذه الإجراءات إذا قمت بها تصبح متدينا بينما في تعاملاتك يكون كل شيء مباحا من أجل تحقيق مصلحتك ورغباتك.
في مصر يتزاحم المصلون حتى تضيق بهم المساجد وفي نفس الوقت تحتل مصر في الاحصائيات العالمية موقعا متقدما للغاية في مؤشرات الفساد والتحرش الجنسي. في كل بلاد الدنيا يوجد فاسدون يتظاهرون بالتدين، أما في مصر فإن معظم الفاسدين متدينون فعلا. الموظف المرتشي والإعلامي الكذاب عميل الأمن والطالب الغشاش والصيدلي الذى يبيع أدوية منتهية الصلاحية والممرضة التي تسيء معاملة المرضى والضابط الذي يشرف على تزوير الانتخابات أو يعذب المعتقلين، كل هؤلاء لو عرفتهم شخصيا ستجدهم غالبا متدينون بصدق لأنهم ببساطة لايرون أي تناقض بين سلوكهم الفاسد وفهمهم للدين. هذا الانفصال بين الدين والسلوك أصابتنا به النسخة الوهابية من الاسلام التى غزت مصر في العقود الأخيرة.. كل من عمل في بلاد الوهابيين يعلم أن التشدد الديني هناك لا يتعدى المظاهر بينما الناس قد يرتكبون مايحلو لهم في السر.
في كل يوم تنشر الصحف استغاثات مصريين من الكفيل الوهابي الذي يعملون عنده لأنه بالرغم من تدينه الظاهر لا يتورع عن السطو على مستحقات المصريين والتنكيل بهم إذا طالبوا بحقوقهم. أما انحدار الأخلاق الذي ينتشر في مصر فلا يمكن فهمه إلا في ضوء طبيعة النظام الحاكم. المواطن في بلد ديمقراطي ينشأ على منظومة واضحة من الحقوق والواجبات وهو يتربى على الصدق لأنه لايحتاج إلى الكذب إذ أنه يثق تماما في منظومة العدالة وبالتالي لا يخشى من ضياع حقوقه وهو يتعلم أن توفير الحياة الكريمة له هي أهم وظيفة للدولة.. على عكس المواطن في نظام الاستبداد الذي يشعر بأنه بلا قيمة وأنه لو فقد حريته أو حياته في أي لحظة فلن يهتم أحد بمحاسبة أحد مادام الضحايا من البسطاء. إنه يكذب لأنه يعيش في أكاذيب. إنه يرى الناس يهنئون رئيس الجمهورية بفوزه في انتخابات يعلم الجميع أنها مزورة ويستمع للرئيس وهو يكيل المديح للشباب بينما هو قد ألقى بعشرات الألوف منهم في المعتقلات ويستمع للرئيس وهو يطالب الناس بالتقشف بينما يتنقل سيادته بين السيارات الفارهة والقصور الأسطورية فلا يجرؤ أحد على مطالبته بالتقشف الذي ينادي به.
في الأنظمة الديكتاتورية تكون المسافة شاسعة بين الكلام والفعل وبين الصورة والواقع. هذا التناقض ينتقل كالمرض من السلطة المستبدة إلى أفراد الشعب. الأخطر من ذلك أن الاستبداد يدمر القواعد العادلة للمجتمع وبالتالي ينسف العلاقة بين الأسباب والنتائج .. فيصبح الترقي في العمل ليس للاصلح والأكفأ وإنما للأقدر على النفاق والحصول على واسطة قوية ويصبح التعيين في السلك الجامعي ليس للطالب المتفوق وإنما لأبناء الأساتذة والشخصيات الهامة حتى لو كانوا فاشلين دراسيا والقانون لايطبق إلا على الضعفاء، أما الكبار فتعطل من أجلهم قوانين وتصدر قوانين لحماية مصالحهم. عندما يقود المصري سيارته في البلاد الغربية يلتزم تماما بقوانين المرور لأنه يعلم أنها تطبق على الجميع بلا تمييز لكنه إذا عاد إلى مصر وأمن العقاب، سيخالف قواعد المرور فورا لأنه ببساطة يعلم أنها لا تطبق أبدا على الكبار. إن المصري البسيط يعتبر نفسه ـــ عن حق ـــ مظلوما وبالتالي فهو يعتبر من حقه أن يفعل أي شيء حتى لو كان غير أخلاقي حتى يحصل على حقوقه الضائعة. أذكر أنني سألت يوما صاحب محل في وسط القاهرة لماذا يسرق الكهرباء بينما هو يستطيع أن يدفع ثمنها فأجاب ببساطة:
ـــ الحكومة ياما سرقتنا.. لما نسرقها مرة نبقى بنأخذ حقنا.
إن تدهور الأخلاق في مصر ليس طبيعة في المصريين وليس مجرد تقصير أو معصية دينية نعالجها بالمواعظ.. أزمتنا ليست في الأخلاق ولا في الدين وإنما في نظام الحكم. إن تدهور الأخلاق مثل التدين الكاذب والسلبية كلها أعراض لمرض الاستبداد. لن تزول الأعراض أبدا إلا بعلاج المرض.. لن تنهض مصر أبدا إلا بإقامة نظام ديمقراطي.