لا أحد يعلم من أين تدحرجت الدعوة إلى التظاهر يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في مصر، تحت شعار “ثورة الغلابة”، ولا من يقف وراءها. نعرف فقط الذين يقفون أمامها مذعورين، وهم يمثلون ما تبقّى من مجموعاتٍ لا تزال تتغذّى على استمرار هذا النظام، وترى في رحيله هلاكها.
كل ما نعلمه أن الدعوة تنمو وتنتشر، إلى الحدّ الذي أثار فزع النظام، فعادت حالة هستيريا مسعورة تسيطر على أبواقه، تهدّد بإبادة كل من يفكّر في النزول، وتستدعي ترسانة الفاشية، وتستخدم كل الأسلحة غير المشروعة، وتتحوّل استوديوهات الجنرال إلى مشاتم وأفران غاز تفتح أفواهها لالتهام كل من ينطق بكلمةٍ عن فشل الجنرال، والخراب المعشّش في جنبات البلاد والانهيار الشامل على كل المستويات.
تعود مجدّدا الحرب الجرثومية ضد الجميع، يأتون بشعبان عبد الرحيم ليغني ضد محمد البرادعي، في كل كوبليه من المونولوغ جريمة سبّ وقذف، وجريمة تحريضٍ على القتل، هذا لو كانت هناك دولة لها نظام قضائي، وتستعمل اختراعاً اسمه “القانون”.
لا يختلف ما يقوله شعبان عبد الرحيم عن ما يردّده عبد الفتاح السيسي، أو مكرم محمد أحمد، أو فريدة الشوباشي، فعندما يقفز الجميع في مستنقع الفاشية، لا فرق بين مثقفٍ ومصفّق، أو بين إعلامي واختصاصي في التعذيب، كلهم محرّضون على الدم والتصفية والإبادة.
كل الفاشيين والمتسفّلين في الكراهية والإقصاء والعنصرية ضد هذه الدعوة، هذا يكفي وحده سبباً لكي لا تكون ضدها، ولا تستجيب لصيحات الحرب عليها من جميع الجهات. يستوي هنا الذين يعتبرونها “مخططاً إخوانياً شرّيراً”، أو الذين يعتبرونها “لعبة مخابراتية محكمة”، من دون أن يترك أحد لنفسه مساحة للتفكير الهادئ في أن أوضاعاً مهترئة، اقتصادياً ومجتمعياً وسياسياً، تدفع الناس إلى كسر قشرة الخوف، السميكة، والخروج من شرنقة الأوهام يطلبون حياة آدمية.
وكما فعلوا مع صرخة سائق التوك توك التي ستدخل التاريخ يوماً ما، يسلكون مع دعوة ما تسمى “ثورة الغلابة”، فتمضي المواقف منها بين التخويف والتخوين، إذ تمارس بعض النخب استعلاءً ممجوجاً على منطلقات الدعوة، بالذهاب إلى أن نداء الجوع لا يكفي لإحداث ثورة، وكأن الثورات فعل ثقافيٌّ محض، ينبغي أن ينطلق من تنظيراتٍ فكريةٍ ضخمة، وقضايا مفاهيمية هائلة في مفرداتها ومصطلحاتها، أو أنه ما دامت لا توجد رموز مشهورة خلفها، فلا يصحّ اعتبارها ثورة، ولا يمكن توقّع نجاحها في صناعة التغيير.
ليس مطلوباً في من يثورون ويغضبون أن يؤلفوا كتاب “فلسفة الثورة”، قبل أن يتحرّكوا ويدعوا الناس إلى التحرك، ولا يعقل أن نصادر حق البشر في التعبير عن آلام الجوع والفقر والتأزم المعيشي، بحجة أن الثورة لابد لها من شعاراتٍ أكثر تقعيراً، تتحدث عن القيم الكلية المجردة، إذ لا تعارض أبداً بين مطلبي الخبز والحرية، أو بين الاستجابة لهتاف البطون وتلبية نداء العقول. فمن يطلب الخبز، بالضرورة يسعى إلى الحرية، وليس صحيحاً أن الجوعى لا يطالبون بالحرية والعدل والكرامة.
كانت واحدةً من أخطاء ثورة يناير أنها وقعت في فخ الاستعلاء على احتياجات الجماهير المادية، وابتلعت الطعم الشرير الذي كان يعتبر كل هبّةٍ شعبيةٍ محدودةٍ من أجل إصلاح الأجور، أو الخبز، مثلاً، مطالب فئوية تعرقل الوصول إلى المبادئ الكلية، والمعاني النظرية للثورة، وهو ما أوجد فجوةً بين نخب الثورة والجماهير المطحونة، تلك الفجوة هي ما اشتغلت عليه مؤسسة الانقلاب مبكراً للغاية، فبدأت “الحرب العكاشية الأولى” التي ترسخ عند الناس ارتباط الفعل الثوري بالخراب الاقتصادي، ثم تطور الأمر إلى مشروع “تمرد” المصنوع كلياً في مطابخ المجلس العسكري، ومخابراته.
ويمكنك الرجوع إلى بنود استمارة الانقلاب “تمرد”، ستجد أنها كانت تلعب على غريزتي الجوع والخوف عند الجماهير، وهذا ما يثير فزع نظام السيسي الآن، إذ يستعمل الداعون إلى 11/11 السلاح ذاته الذي استخدمه الجنرال في تنفيذ انقلابه، ويعلم فاعليته وتأثيره الشديد. ومن هنا، كان الفزع من صرخة التوك توك التي تجسّد مضمون “ثورة الغلابة”، فتلك هي الشريحة الاجتماعية الهائلة التي تصورت السلطة أنها ضمنت صمتها الدائم، بالنظر إلى جرعات الأوهام المكثفة التي حقنتها بها. ولذلك، جُنّ جنونهم وهم يتابعون التآكل المذهل فيما بنوه من أساطير تتساقط تباعاً، وتنبئ بأن الجماهير لم تعد مستعدةً لتعاطي مزيد من الأوهام والأكاذيب.
إن أحداً لا يملك رفاهية الادّعاء بأنها ستكون ثورةً كاسحةً، تُسقط النظام بالضربة القاضية، غير أنه ليس من المنطقي إنكار أهميتها، من حيث المبنى والمعنى. فمن حيث المبنى يظهر أنها تجد تفاعلاً واستجابة، يثيران الخوف في دوائر السلطة. ومن حيث المعنى، هي تجسّد حقيقة أن الناس لم تعد ترى أملاً بحياةٍ محترمةٍ في ظل هذا النظام. وبالتالي، لا تتوقف محاولات إزاحته، وإن لم يكن التغيير في هذه المرة، فقد يأتي في مرة مقبلة. وفي الإجمال: الثورة مستمرة، سواء كانت من عند النخب المثقفة، أو من لدى جموع الغلابة.
اتركوا الغلابة يقولون كلمتهم، وإذا لم تكونوا قادرين على أن تكونوا معهم، فلا تكونوا ضدهم.