لحظة تاريخية وحلم مزعج
لم تكن حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973 مجرد لحظة نصر عابرة تحولت إلى هزيمة كما يريد البعض أن يصورها ولكنها كانت لحظة نصر تاريخي يجب أن نتمسك به، لأنه تأكيد على قدرة مصر والأمة في أخذ زمام المبادرة لتغيير الواقع مهما كانت تحدياته.
لذلك فإن ذكرى هذا النصر لا بد أن تكون منطلقا متجددا لتثبيت عقيدة الأمة الاستراتيجية تجاه عدوها، ودافعا لاستنهاض الهمة في تغيير واقع سعي أعداؤنا لفرضه علينا عبر من حادوا عن ثوابت الأمة التي لا حياة لها بدونها.
ستظل حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 هي الحلم المزعج، الذي يقض مضاجع الكيان الصهيوني وقادته لأنها تأكيد على أن أي لحظة استفاقة جديدة لمصر والأمة -وإن مازالت في رحم الغيب- ستعجل من تكرار لحظات أكتوبر، ولكن هذه المرة لاستكمال الهدف الأكبر نحو تحرير الأقصى.
في كتاب عن مذكرات جولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر بعنوان “حياتي” والذي ترجمه إلى اللغة العربية خبير الشؤون الإسرائيلية عزيز عزمي بعنوان اعترافات جولدا مائير- تحدثت فيه عن حرب أكتوبر قائلة (سأظل أحيا بهذا الحلم المزعج لبقية حياتي، ولن أعود نفس الإنسانة مرة أخري التي كنتها قبل حرب كيبور) كما أشارت إلى أن التفوق العربي كان ساحقا و قالت (كنا في انهيار نفسي عميق).
لماذا يرى البعض الانتصار هزيمة؟
إن الحروب لا تقف تأثيراتها عند حدود الجوانب العسكرية والاستراتيجية ولكنها تتجاوز ذلك إلى آفاق أرحب تتعلق بالصراعات الدولية وتوازن القوى والمناخ السياسي الدولي وتُغير العديد من المعتقدات السياسية المهيمنة وتزلزل كثيرا من قناعات الأعداء والأصدقاء.
لقد كان الكيان الصهيوني يعيش حالة رعب، وخوف عميق، وكان الوهن والضياع هو الشعور العام المسيطر على الجميع قادة وشعبا، لذلك عمل الكيان الصهيوني عبر معركة دعائية شرسة للنيل من هذا الانتصار، والانتقاص منه ونسبة الانتصار لهم حتى يزيلوا كل أثر سلبي في نفوسهم ولو كذبا وخداعًا وتعاليا على اعترافاتهم، التي وصفوا فيها ما حدث بالكارثة المروعة.
الهزيمة لنا والنصر لهم هذا ما قاتل عليه بشراسة عدونا الاستراتيجي ولا غرابة في ذلك ، لكن الأشد غرابة هو أن يتبنى بعضنا منطق الهزيمة المطلقة ويهيل التراب تماما على حرب تشرين الأول/ أكتوبر؟
أسطورة وأكذوبة والعبرة بالمآلات
فما بين الأسطورة، والأكذوبة واعتبار المآلات التي تعيشها مصر والأمة العربية الآن، بعد كامب ديفيد، والقول بالدعاية السياسية، وإنهاض المعنويّات على حساب الحقائق والأرقام يرى البعض حرب أكتوبر هزيمة.
هناك من يرى في حرب تشرين الأول/ أكتوبر نصرا حتى يوم الرابع عشر من نفس الشهر ثم تحولت إلى هزيمة بعد ذلك ويعتبرها معركة جزئية و أن الحرب كانت ضرورة لاستمرار النظام العسكري الذي عانى أوضاعا حرجة حتى أوشك على السقوط، ومن ثم خاض هذه المعركة واعتمد عليها لتثبيت وجوده عبر شرعية الحرب.
على جانب آخر يرى البعض في نصر تشرين الأول/ أكتوبر بعد وصفه بالأسطورة الكاذبة أنه قد يكون أشد ضررا وإيلاما من هزيمة حزيران/ يونيو 1967 لأنه كما يقول سمح للنظامين المصري والسوري بتطليق الحروب ضد العدو بالثلاثة أما الهزيمة في 1967 فقد شحذت الهمة وأطلقت المقاومة؟!
وانطلاقا من تلك الرؤى السابقة وغيرها التي تصطف خلف منطق الهزيمة نجد القاسم المشترك بينها هو رفض النظام العسكري وانتقاده ومن ثم أهال البعض التراب كلية على حقيقة النصر.
حقائق مهمة حول النصر
لقد التفت البعض عن حقيقة مهمة نعيد التأكيد عليها ألا وهي أن هذا النصر لم يكن أبدا نصر لنظام عسكري وإن استغله ولم يكن نصر لجيش وإن تفاخر به ولكنه كان نصرا لأمة بكافة مكوناتها بل كان على حد تعبير الجنرال بوفر (أول انتصار عسكري حقيقي يحرزه العرب في العصر الحديث).
أما عن الثغرة التي تحدث عنها الكثيرون وكانت المدخل الأهم للتقليل من هذا النصر فقد قال عنها الجنرال بوفر أيضا وأنقل عنه ترجمة متداولة حيث قال: (لقد تصورت في ذلك الوقت أن الغرض من ذلك معنوي تماما)، حيث اعتقد الإسرائيليون أن وقف إطلاق النار سوف يوفر الحماية لقدراتهم من التدمير.
ولذلك كانت عملية الثغرة أكثر من عرض تلفزيوني منه عملية عسكرية، ولم يعد الجيش الإسرائيلي يستطيع تحقيق تفوقه، وهذه حقيقة لا خلاف حولها، وقد أصبحوا يدركون ذلك ويجب عليهم اختيار أحد أمرين، الأول هو شعورهم بدرجة أكبر من عدم الأمان وزيادة قوتهم العسكرية، أو الثاني وهو التوصل إلى اتفاق، ثم أضاف قائلا (وأيا كان الرأي فإن النجاح الأكبر قد حققه العرب في السادس من أكتوبر بذلك التأثير المعنوي العظيم على المعسكر المعادي لهم وعلى اتساع العالم، ويجب عليهم الأخذ في الاعتبار ذلك المتغير الجديد وتأثيره على العالم ومحاولة كسب تأييده ودعمه.
ما بين جدلية نصر أم هزيمة.. أين الحقيقة؟
مما لا شك فيه أن الحرب وجه من وجوه السياسة وامتداد لها ولكن بأدوات عنيفة، كما أن الانتصار العسكري يمتد من حيز الإنجاز العسكري إلى حيز صراع الإرادات والقدرة على إملائها والحفاظ على الإنجازات غير أن هذه الرؤية على اطلاقها مجردة دون اعتبار للمتغيرات التي تطرأ قد يجعل من كل نصر عسكري هزيمة مطلقة.
وما بين جدلية نصر أم هزيمة فإن الحقيقة المؤكدة أن حرب تشرين الأول/ أكتوبر كانت نصرا مؤكدا للأمة في وقتها أما واقع الأمة الآن وما بعد كامب ديفيد فلا علاقة لنصر أكتوبر به، وإن التمسك بحقيقة النصر يٌعد وسيلة هامة لبعث الروح في الأمة من جديد وتذكيرها بأنها قادرة على النهوض من كبوتها واستكمال مسيرتها في دحر أعدائها وأن الأمر لا يتطلب إلا إرادة.
في كتاب “زلزال أكتوبر حرب يوم الغفران” تحدث زئيف شيف المعلق العسكري الإسرائيلي قائلا إني أحصي للعرب خمسة إنجازات هامة:
أولا: نجحوا في احداث تغيير في الاستراتيجية السياسية للولايات المتحدة الامريكية بصورة غير مواتية لإسرائيل.
ثانيا: نجحوا في تجسيد الخيار العسكري مما يفرض على إسرائيل جهودا تثقل على مواردها واقتصادها.
ثالثا: نجحوا في احراز درجة عالية من التعاون العربي سواء علي الصعيد العسكري او الاقتصادي خاصة عندما استخدموا سلاح البترول في أكتوبر.
رابعا: استعادت مصر حرية المناورة بين الدول الكبرى بعد أن كانت قد فقدتها قبل ذلك بعشر سنوات.
خامسا: غير العرب من صورتهم الذاتية فقد تحرروا من صدمة عام 1967، وأصبحوا أقدر على العمل الجاد.
ماذا بعد أكثر من أربعة عقود من النصر؟
لكن على جانب آخر وفي أيامنا هذه يرى الكيان الصهيوني أن الواقع بات جيدا بالنسبة لهم بعد 43 عاما وهنا أسوق طرفا مما تصدر صحيفة جيروزاليم بوست في شهر تشرين الأول الجاري 2016، تحت عنوان “استشراف التهديدات العسكرية التى تواجه إسرائيل خلال العام المقبل”، أعده ياكوف كاترز النائب السابق بالكنيست الإسرائيلي والمحلل السياسي – و هنا أسوق فقرات مما كتب- حيث ذكر أن إسرائيل في مستهل العام اليهودي 5777 لا تواجه أي تهديد عسكري تقليدي أو وجودي.
وأضاف أن هذا ليس بالأمر الهين، بالنظر إلى أن إسرائيل كانت قبل 43 عاما فقط ترزح تحت نير هزيمة منكرة في سيناء وهضبة الجولان، في كارثة دموية عرفت باسم يوم الغفران.
وأشار ياكوف أيضا أن ثمة سلام قائم بين مصر وإسرائيل، و الجيش السوري صار متآكلا، وعمليا فهذا يعني أنه لا يوجد عدو متاخم للحدود لديه القدرة على غزو إسرائيل ولا يوجد تهديد على جيش الدفاع الإسرائيلي، وأضاف قائلا: إلا أن عدم القدرة على التنبؤ بتحركات الأعداء، والأنماط المتغيرة التي يستخدمونها في الحرب، تعني أن الجيش الإسرائيلي يحتاج أن يكون دائما في حالة تأهب. رياح الحرب يمكن أن تهب من أي جبهةٍ في أي لحظة، ولهذا فإن الجيش الإسرائيلي دائمًا في حالة استعداد. لكن من ناحية أخرى، فإن النصر على أعداء من هذا الطراز لا يكون حاسمًا.
القول الفصل
بعد أكثر من أربعة عقود (43 عاما) على نصر الأمة التاريخي في تشرين الأول/ أكتوبر 1973 فإن القول الفصل أن هذ النصر كان نصرا حقيقيا وإن لم تُقطف ثمرته الأكبر باستثماره فيما بعده وفرض الإرادة كاملة على عدونا الصهيوني إلا أنه انتشل الأمة من هزيمتها وجبر انكسارها وإن لم يكن لهذا النصر سوى جبر الانكسار فهذا هو.
غير أن محددا هاما للغاية في ذكرى النصر لابد أن يدركه المصريون ويدركه العرب عن مصر صاغته كلمات الراحل الدكتور جمال حمدان في مقدمة الجزء الأول من رائعته -شخصية مصر- حيث يقول: (مصر بالذات محكوم عليها بالعروبة والزعامة، ولكن أيضاً بتحرير فلسطين، وإلا فبالإعدام، فمصر لا تستطيع أن تنسحب من عروبتها أو تنفوها عن نفسها حتى لو أرادت. كيف؟ وهي إذا نكصت عن استرداد فلسطين العربية كاملة من البحر إلى النهر، وهادت وهادنت وخانت وحكمت عليها بالضياع، فقد حكمت أيضاً على نفسها بالإعدام، وبالانتحار، وسوف تخسر نفسها ورصيدها. الماضي كالمستقبل، التاريخ والجغرافيا) انتهى كلامه.
ختاما
إن الأحداث التي تمر بها الأمم تؤكد أن التاريخ لا يقف عند نقطة واحدة وإن ما يُنظر إليه على أنه هزيمة قد يكون دافعا لانتصارات كبرى وما تحقق من نصر قد تٌذهبه أدراج الرياح سياسات خاطئة، غير أن الثابت الذي لا خلاف عليه أن المعركة التي ينتصر فيها الإنسان هي عندما يرفض الاعتراف بالهزيمة ويعمل لأجل نصر قادم لأن الأيام دول والحرب سجال.
لا تهيلوا التراب على نصر حقيقي عاشته الأمة بسبب واقعنا الحالي يرحمكم الله و لكن أجعلوا من ذكرى النصر شاحذا لذاكرة الأمة وكاشفا لهؤلاء اللذين تاجروا بتضحيات الشعب ودماء الشهداء وانقلبوا عليها ويريدون العدو الاستراتيجي الأبدي حليفا وصديقا فكادوا أن يجعلوا مصر جسدا ميتا وجثة هامدة.
حرب أكتوبر لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ شعب وأمة وليس تاريخ مؤسسة فلا يهيل البعض التراب على نقطة ضوء في تاريخنا الحديث فيسهم من حيث لا يدري في تحقيق مقاصد أعدائنا، لأن نصر أكتوبر سيظل دليلا واضحا على من هو عدونا، الذي لن يصبح أبدا حليفا لنا، وإن وعد الله فينا وفي أعدائنا محقق لا محالة مهما طال الزمن.