ورث كلاهما عباءة خاصة به، طرزها آباء وأجداد بدمع العينين، ودماء القلب، وسهروا واستشهدوا ليحافظوا على سلامتها وحرصوا على ادخارها بحالة جيدة لاستمرار مسيرة الإنسانية كلها، لا لأمنها وحدها.
ولكن القوم من الاتجاهين والفريقين والجهتين رأوا أمراً غريباً، وكان فيهم، إذ فعلوا الأقرب إلى الباطل، والأقرب إلى الحق، ولكن الأمر كان وما يزال بالغ المرارة، لم يهدد العباءة وحدها، بل أمة تعاني نتيجة عدم الحفاظ على عباءة..فرضت نفسها بكفاءة وقوة موقعها على الخارطة.
واحتدمت المواجهة بين جهتين غلب على الأولى “الغباء” وغلبت “الخيانة” على الثانية، من آسف، وكانت نقطة السر، وموعد الصفر للقائهما الأسبوع الأخير من الشهر المُفتتح لعام 2011م، وبالتحديد في 25 من يناير/كانون الثاني.
كانت المخابرات الحربية قد توقعت انتفاضة شعبية في عام 2010م، فتأخر الموعد قليلاً، ولكن مديرها (عبد الفتاح السيسي آنذاك) أعد للأمر عدة لم يبح بها في ذلك الوقت، فرئيس البلاد، آنذاك، الذي لم يكن يهمه من أمر العباءة الفخمة الضخمة إلا انها في النهاية له، يتخيلها مهراً هائجاً لكنه استكان له، ولذا فإنه وهب حياته، في المُقام الأول للحفاظ على ظهرها له ولابنه وأحفاده من بعده، فيما رأى مدير مخابراته الحربية الفرصة سانحة للانقلاب عليه.. لكن مع كثير من الصبر.
ولأن الأخير كان مدسوساً، بعناية، على الجيش المصري، سواء أصدق القائلون بأنه صهيوني أم كذبوا؟ فقد تدرج فيه رويداً .. رويداً، وعاماً بعد آخر كان يتحمل البذاءات في حقه، بل يستسيغها، تخرج من الكلية الحربية حين حطت الحروب التي شاركت فيها مصر أوزارها، وصار الجيش بعدها يستسلم للولايات المتحدة الأمريكية، تؤهله على عينها لدور غير الذي كان له من قبل، فلم يعد يحمي حدوداً من العدو الصهيوني بل صار يتحول إلى الحرب على الجبهة الداخلية، للقضاء على كل أمل في نهضة مصر، قلب العروبة والإسلام النابض.
وأدرك شبه الرجل أن الجيش مستاء من تولي “جمال مبارك” الحكم من بعد أبيه العجوز؛ فإن الأول، وإن طال العمر به عسكري، مهما قل فهمه وعظم حفاظه على أغراضه الخاصة، أحب أن تكون البلد ملكاً له ولأبنائه وأحفاده، وسرعان ما جاءت الأحداث بما توقع قائد الانقلاب، وإن تأخرت شهوراً، وكان من الصعب في أوج ما خيل للجموع التي شكلت نحو 5% من المصريين، كان من الصعب أن يُقال لها أكثر الله من خيركم أزلتم مبارك للجيش ليحكم الأخير من جديد،.. لذلك تمادى التخطيط وإحكام التنفيذ، ليتآزر المكر الدولي مع سيء إعمال “عبد الفتاح السيسي” لعقله!
كان الأمر يبدو كالمقص الذي يقطع من ناحيتين: يحقق الغرض للانتفاضة أو الحركة الشعبية، ويوهمها بتحقيق النصر لـ”الثورة” التي تأملها الجميع من شرفاء مصر، ومن ناحية أخرى التخلص من “حسني مبارك” العقبة الكئود في وجه تولي الجيش حكم مصر من جيد، كما هو معتاد، أما المسمار الممسك بطرفيّ المقص فهو رغبة “عبد الفتاح السيسي” في حكم مصر.
وعلى الجانب الآخر لم يكن أمام الجيش من مؤسسة في البلاد، وإن لم تكن رسمية، سوى الإخوان المسلمين، يملكون شعبية واسعة، وعباءة مشابهة للتي يملكها الجيش من تغلغل في التربة المصرية، ومحبة لمئات الآلاف لهم، وإن اختلفت الآلية، ورغم القهر والتضييق والاختلاف كانوا الوحيدين القادرين على التنظيم المًحكم، وإن لم تكن الثورة من الأساس من أولوياتهم أو حتى أهدافهم، وإنما الإصلاح المتدرج من البيت إلى الأسرة فالشارع والمدينة ثم الدولة فالأمة، ولكن سرعان ما شاركت الجماعة في الثورة؛ وسرعان ما عدل بعض القادة من آلياته، ويروى أن الراحل الأستاذ “جمعة أمين” قال: لعل الله قد زوى (دمج وجمع وعجل) لنا المراحل!
منتصف عام 2011م وعقب ما سُمي ثورة مصرية بأشهر قليلة قال الدكتور “محمد البلتاجي”:
ـ أشعر بأن مؤامرة دولية للزج بالإخوان في حكم مصر..!
ولكن أحداً لم يستمع إلى الرجل، بل كادت الاجنحة المعارضة لقوله، التي أحبت أن تكشف قواها بالنزول بقوتها إلى حكم مصر، دون وعي بما تفعل أو مرارته، كادت الأخيرة أن تفصله من الجماعة، بحسب مقولة الشيخ “عصام تليمة” مؤخراً، وكان أن اندفع الإخوان بكل قواهم لتولي المسئولية، رغم اعتراض مجلس شورى الجماعة لمرتين، بما في المعترضين المرشد الحالي للجماعة، فك الله أسره، والسابق، خفف الله عنه، وكان أن تولى الرئيس “محمد مرسي” المسئولية في سابقة اولى مُبهجة في تاريخ مصر، ولكن معاول الإفشال الرهيبة بدأت من جميع مؤسسات الدولة التي لم تكن قد تغيرت، وإنما تغير، أسمياً، رأس قمتها، ولم يشعر الإخوان من آسف بضراوة ما يحدث ويعد لهم رغم تحذيرات الشيخ “حازم صلاح أبو إسماعيل” وعقلاء آخرون.
وكان أن انقلب الجيش وفق السيناريو المعروف المؤلم، وسالت دماء الآلاف، وأصيب آلاف آخرون، واعتقل كثيرون من خيّرة أبناء مصر، ذلك بوضوح لأن الجماعة التي (فشلت) من آسف شديد في فهم متطلبات المرحلة عقب 25 من يناير/كانون الثاني 2011م، والإعداد المتدرج لتأهيل الشعب المصري تربوياً، وإن الجماعة التي اعانت الملايين اجتماعياً بشكل مالي وإنساني، وليراجع مَنْ يريد كلمات السيدة “جيهان السادات” عن المبلغ المالي الذي كان تتقضاه أسرتها أثناء سجن زوجها في الأربعينيات من القرن الماضي، ومن ذا الذي ينكر أيادي الإخوان البيضاء على مصر كلها؟!
ولكن الأمر لم يتم إلى توعية سياسية للشعب المصري وتعريف بأبجديات الديمقراطية، ومعنى صندوق الانتخابات والحفاظ على نتائجه، عوضاً عن إجراء دراسة استيعابية لطبيعة المصريين، وكيفية حكمهم.
وعقب انقلاب الجيش على الإخوان لم يعرف الأخيرون كيفية لملمة الجراح، والاكتفاء بما وصل إليه الحال، ولم يفهموا انسحاب “نجم الدين أربكان” وحزب “الرفاة” عن الأمر في تركيا عام 1997م إثر انقلاب سمي “انقلاب المذكرات” لأن الجيش التركي لم يجد الذي يتصدى له، بل انسحب الأتراك، وقال الرجل في قوة:
ـ خسرنا هذه الجولة.
ووافق أن يسجن لسنوات حتى أفرج عنه بعفو صحي الرئيس “عبد الله جول” في 18 من أغسطس/أب 2008، وليتوفى الرجل في 27 من فبراير/شباط 2011م متبوعاً بدموع الملايين وفي مقدمتهم تلميذه النجيب “رجب طيب أردوغان” الذي استطاع البناء على تجربته بحزب “العدالة والتنمية” وحكم تركيا في جولة جديدة أكثر احترازاً من الأخطاء وإن لم تبلغ المثال.
آثر الإخوان الوقوف في وجه العسكر، بعد أن استفزوا، من آسف، إلى حكم مصر، وفي الحالين لم يكن في الأمر تروِ أو تمهل بل مزيد من الدماء، وانسياق خلف الأماني بالنصر الوشيك الذي لا تملك الجماعة ولو جزء يسير من أسبابه، والنتيجة يُغرقُ العسكر مصر العباءة المتماسكة في آتون التصرفات الهوجاء، وفي المقابل يتفرق قادة الإخوان يميناً ويساراً، فلا أدوات للنصر ملكوا، ولا قوة من وراء الحق لديهم تحميه، ولا منعة في الحياة الدنيا، ولا استراتيجية ولا تخطيط للغد بل الأمور تسير على عواهنها، ويستمر التخبط من جماعة كان يعول الكثير عليها لا لحفظ عباءة مصر بل الأمة كلها، وهاهي الأيام تدور وما زال الأمل معلقاً بلحظة تحفظ فيها القيادات الباقية على نفسها توازنها بتماسك وفعل إيجابي، ولو بالتنحي عن المأساة المستمرة، وتولية جدد قادرين على مواكبة المآساة والبحث عن حل لها.
مؤخراً صدرت توجيهات عن الجماعة بدولة خليجية بأنها ستعود إلى التربية من جديد ونبذ العنف (الكويت)، فيما قيل بقوة أن الانقسام الحادث في تركيا عائد إلى قرار بالتراجع عن النهج الثوري، وفي المقابل ما يزال الخرق يتسع على الراقع، فلا الجماعة تعلن إعادة الحسابات، والبدء في جولة جديدة لمواجهة الطغاة تحسن فيها استيعاب ما مضى وتعد العدة لما هو آتٍ بدلاً من الانطلاق من الأحلام وما هو أكثر إلى لا شىء، مع تعليمات سرية مخالفة!
إن الشامتين، من الجماعة، في ردائة الحال في مصر، الراغبين في العودة إليها بعد تمام سقوطها لا يعرفون تماماً إن العباءة التي بأيديهم هي التي بيد الجيش طرف هنا وطرف هناك، ورغم الأمور المغلقة الحل اليوم إلا أن آمال الملايين في البلاد وخارجها من المخلصين في حل يحفظ على مصر تماسكها ووحدتها، وإن السقوط لن يبقي على الجانبين، وعلى العباءة الواحدة .. حمى الله مصر والمخلصين من أهلها ووهبهم السلامة وحسن التفكير للخروج من المأزق الحالي في عافية..!