استقالة إياد مدني من منصبه، أميناً عاماً لمنظمة التعاون الإسلامي، بعد موقعة الثلاجة، لن يمحو الحقيقة المؤلمة: السيسي هو الشخص الذي استطاع تحويل مصر إلى دولةٍ أصابها الخلل العقلي، فتجاوزت حدود النكتة، واخترقت حاجز المسخرة، فضحك عليها العالم حتى البكاء. علامات الهزء لا تعد ولا تحصى، وأدلة انعدام القيمة لا تحتاج إلى مجهود كبير لحصرها، ومن هنا تأتي الدهشة من الذين يعاقبون الجمهور على الضحك، وهو يشاهد كوميديا زاعقة، يقدمها “بلياتشو” يحشد في كل عروضه توليفة حارة من القفشات والحركات، يستهدف بها قطاعاً بعينه من المشاهدين، ظناً منه أنه بهذه الوسيلة يسيطر على الأدمغة، ويستدر العطف. وبما أن الوعود لم تعد قادرة على خطف الجمهور، تغيرت الخطة إلى محاولة اختطافهم بالنكتة والحدوتة المفرطة في غرائبيتها وسذاجتها، من نوعية الثلاجة الفارغة، والتي أحدثت تسونامي سخرية، فلما انفعل إياد مدني بالنكتة، وتفاعل معها، قامت القيامة ونصبت المشتمة، وأعلن الجهاد الركيك، دفاعاً عن كرامة وطنية، كان كبير المهرجين أول من أهدرها وابتذلها، قولاً وفعلاً، في كل مسرح وقف على خشباته.
ليس هذا فحسب، بل إنهم نقلوا المسألة من الكرامة الوطنية إلى الإيمان الديني، لتتحول خطبة الجمعة، عقب مسخرة مؤتمر شباب كفر الشيخ إلى نكتة قومية موحدة أخرى، تذهب أبعد من الربط بين السيسي والوطن، إلى اعتبار أن إيمان المرء لا يصح إلا إذا كان مؤيداً له مدافعاً عن كوارثه وفشله المقدس، من خلال الإلحاح على أن حال السيسي في مصر، مثل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، يريد أن يبني دولة مثله، وبناء عليه فالمؤمنون هم، فقط، الذين يؤيدون السيسي، فيما يصبح المعارضون له كالمنافقين في المدينة، ولا بد من إخراجهم منها، وتركها للمؤمنين الطيبين، أتباع عبد الفتاح السيسي، وصحابته الكرام.
لم تقل لنا كتب السيرة إن نبي الإسلام كان يستحل الكذب للسيطرة على أتباعه، ولم تكن لديه هيئة هندسية، تحتكر اقتصاد المدينة، وتتلاعب في الأسواق، بإخفاء السلع، ثم إعادة طرحها بأثمان مضاعفة، ولم يكن حوله مجموعة من الفاشيست، يمارسون الفاشية الدينية، والسياسية، على هذا النحو الذي يدفع “أنصار بيت السيسي” إلى التحريض على الشعب، وتحميله كل المسؤولية عن الخراب الذي حل بالبلاد، بفعل سياسات “المبروك” وأتباعه.
لم يقل لنا التاريخ إن الرسول الكريم ارتكب مجازر ضد الإنسانية، كي يبني دولة في المدينة، ولم يطلب تفويضاً وأمراً من الجماهير، كي يقتل ويسجن ويعذب بغير حساب، ولم يشتر رضا الأعداء، بالغدر بالأشقاء وابتزازهم ومحاصرته.
في الفقرة الخامسة من بيانه التاريخي، أمس، يكشف الدكتور محمد البرادعي أن عبد الفتاح السيسي اختار المقتلة مع سبق الإصرار والترصد، رافضاً كل محاولات حقن الدماء، وتجنب الجحيم المجتمعي الذي تغرق فيه مصر حتى الآن، يقول نصاً “ولكن للأسف، وبالرغم من التوصل الي تقدم ملموس نحو فض الاحتقان بأسلوب الحوار والذى استمر حتى يوم 13 أغسطس/ آب، فقد أخذت الأمور منحى آخر تماما بعد استخدام القوة لفض الاعتصامات وهو الأمر الذي كنت قد اعترضت عليه قطعيا في داخل مجلس الدفاع الوطني، ليس فقط لأسباب أخلاقية وإنما كذلك لوجود حلول سياسية شبه متفق عليها كان يمكن أن تنقذ البلاد من الانجراف في دائرة مفرغة من العنف والانقسام وما يترتب على ذلك من الانحراف بالثورة وخلق العقبات أمام تحقيقها لأهدافها”. الرسول لم يكن قاتلاً، ولا دموياً، ولذلك أكرر: ولو فاض النيل دولارات حتى ملأ البحيرة ووصل حتى البحر، لن تنبت لك سنبلات. إنها لعنة الدم.