تمهيد
نستكمل معكم في هذه الورقة بعد طول غياب خارج عن الإرادة تحليل لمعضلة الاخوان، حديثنا في المقالة الأولى (معضلة الإخوان، نظرة تحليلية من الداخل) عن تحليل فكري لجذور الأزمة وما تعانيه جماعة الإخوان من شيخوخة بجانب عدة مشكلات أخرى معقدة أدت لأزمتها الحالية. ونستكمل هنا تشخيص الوضع مع بعض تلميحات بالحلول. تأتي هذه المقالة بعد رصد مزيد من المواقف والاستماع لكثير من الآراء وبعضها مذكور من ضمن السياق بتصرف.
سفينة الإخوان
لدينا سفينة أسسها ربان له السبق والريادة لكي تكون الركوبة التي تحمل من يقتنع بأفكار هذا النهج في رحلة ربانية مستلهمة من الهدي المعين لتصل بهم إلى الوجهة المنشودة. بذل المؤسس من الفكر النظري والجهد العملي ما جعل سفينته أفضل ما يكون في عصره بعدما اكتملت له عناصر حمولتها من:
-
خريطة طريق ناصعة الوضوح لتصل به إلى الوجهة المنشودة والرؤية المرجوة.
-
وطاقم متآلف بينهم أواصر متينة تربوا على معاني سامية لا يذوق حلاوتها إلا من يلحق بهم.
-
ولاحقاً، عدة وعتد شديدة القوة بالمعنى المباشر للكلمة لتدفع عنه بأس المتربصين وتدحر كيد المعتدين.
ثم بدأ الإبحار بهذه السفينة إلى الوجهة ولم يوقفه عنها إلا رصاصات غادرة حصدت روحه إلى باريها.
تعرضت السفينة من بعده لعاصفة تلو الأخرى وأصاب هيكلها خرق تلو الآخر بفعل الزمن أو بفعل المتربصين من أصحاب المشاريع المنافسة وتبدل علي قيادت السفينة شخوص عدة. ثم جاءت أحداث جسام متلاحقة في الخمس سنوات الأخيرة يصعب تقييم ملابستها ما إذا كان إبحار السفينة فيها صحيح وفي الوجهة المنشودة أم هو تخبط وحَيْدة عن الطريق المرسومة. كانت من بعض نتائج هذا الإبحار المثير للجدل أن ضربت السفينة صاعقة مزلزلة في منتصف ٢٠١٣ ساد الهرج والمرج من بعدها لستة أشهر. ثم حدث أن اعتلى الدفة أحد ربان السفينة – نحسبه بإذن الله شهيداً. فأبحر بها في أعالي البحار بسرعة ربما لا يتحملها هيكل السفينة المتهالك ولا الرياح العكسية العاتية وفي طرق جديدة لم يألفها الركاب، بعضهم استحسنها ورأى فيها تصحيحاً لما سبق واختصاراً للطريق التي طالت بهم، وبعضهم رأى فيها متاهة وهلاك حتمي. ثم حدث بعد عام من ذلك أن أفاق طاقم القيادة التقليدي ونازعه الأمر ووصلوا لطريق مسدود من التفاهم على الطريق فضلاً عن أحقية القيادة والكل متشبث بالدفة يديرها بأقصى قوة في اتجاه عكسي والركاب على أثر ذلك النزاع – فضلاً عن تلاطم الرياح من حولهم – بعضهم يتساقط من السفينة في بحر التيه، وآخرين انقسموا الى مجموعات اختلفت وتناحرت فيما بينها، وغيرهم بدأ البحث عن سفينة غيرها، بينما أغلب هؤلاء الركاب (تحديداً ٩٠ ٪ كمعلومة احصائية من مصدر داخلي وليست تحليل أو استنتاج) انزوى على نفسه وأصابه الاحباط واليأس من النجاة وأعرض عن دوره الفاعل المنوط به في هذه الرحلة.
السفينة الآن أمام سيناريوهين، إما أن يأخذ الركاب على يد الذين يخرقون السفية – حتى لو بفرض حسن النية – ومعظمهم من طاقم قيادتها الوسطى والعليا. أو أن يتركوهم لتغرق السفينة بالجميع في خلال أعوام قليلية.
بارقة أمل… ضيق التنظيم أم سعة الجماعة:
في خضم هذا الواقع القاتم يمكن لأي مراقب داخلي محايد من القيادات الوسطى أو العليا للتنظيم – إن خلع عنه نظارة التشاؤم أو لباس الهوى – أن يتلمس أن جماعة الإخوان على عتبات تغيير جذري يشتعل تحت الرماد داخل أروقة الجماعة وفي أماكن جغرافية ووحدات إدارية لم يكن يتخيلها أحد من قبل. هذا التغيير يمكن رؤيته بنظرة الأمل – رغم صعوبة الأسباب المادية – كأمر خيرٍ أياً كانت نتائجه، فهو إما تصحيح للمسيرة وتعزيز للمهمة في هذا الوقت العصيب خاصة مع حاجة الأمة لأن يكون هذا الكيان فاعل ومؤثر، وهذا خير للإخوان وللأمة، أو أنه نتيجة لتصلب مقاومي التغيير وممانعة التيار المحافظ سينهار النظام ويندثر التنظيم – وليس بالضرورة الجماعة وأفرادها – بشكله التقليدي، وفي هذا أيضاً خير بإذن الله ليتشكل النظام القادم على عين الله لمهمة أكبر وطريق أقوم ومرحلة أرقى لا تتحملها ظروف السفينة الحالية بهيكلها المتهالك.
فلعل الأجدى لجماعة إصلاح شمولي تسعى للعالمية في هذا الوضع الشائك في البلد الأم والإقليم والعالم أن تكون هيكلتها ليست بالهرمية التنظيمية التقليدية (ربما كانت صالحة في ظروف مختلفة) التي تعيق سرعة الاتصال ومرنة الحركة وتتضخم فيها المشكلات الفردية لبعض أصحاب المآرب (راجع “لسنا ملائكة” في المقال السابق) بحيث تقزم الجماعة لتنظيم مختطف في ظلمات التيه. ومن أشكال الهيكلة التي ربما تصلح لهذه المهمة وتخرج الجماعة من قمقم التنظيم المحدود هو شكل ما مستقى من نمط “الهيكل المسطح” Flat organization chart وهو يختلف عن الهيكلة الهرمية للتنظيم الحالي كالتالي:
-
الهيكل الهرمي متعدد المستويات الإدارية ويتحكم فيه رأس واحد بينما الهيكل المسطح المقترح له قيادة روحية رمزية ملهمة بينما باقي عموم الجماعة مسطح من مستوى واحد من عموم المقتنعين بالفكرة أو فيما يعرف أحياناً “بالتيار”
-
لن تكون القرارات التقليدية والتكليفات من أعلى لأسفل بشكلها الحالي هي المنظمة لحركة الجماعة ولكن ستكون البيانات والمقالات والأفكار من خلال المنابر الإعلامية المعلنة هي التي تشكل العقل الجمعي لعموم المنتمين للفكرة
-
الهيكل الهرمي شمولي ويدار بقيادة وسطى بصلاحيات محدودة للتشغيل فقط وتتحكم في كل ما يقع في نطاقها الجغرافي بينما الهيكل المسطح تتساوى فيه الرؤوس على مستوى العالم طالما مشتركين في الفكرة
-
تصبح الجماعة مع هذا الهيكل منفتحة على كل القوى والثقافات وتتفاعل معها وتؤثر فيها كما تتأثر بها بخلاف التقوقع على الذات الملازم لأفراد التنظيم حالياً
-
الهيكل الهرمي التقليدي للتنظيم يقوم بوظائف محدودة للجان محدودة الأداء وتختلف فيها مستوى الانتاج لأسباب فردية حسب كفاءة من يترقى في الصف. بينما الشكل المقترح للجماعة يمكن أن تتشكل فيه مجموعات واسعة من الأفراد المشتركين في الاهتمام بدون أي اعتبارات جغرافية ومتنوعة في المستوى الانتاجي منها الاحترافي المؤسسي المتفرغ لمهمة ما ومنها التطوعي المساند. قد يشترك الفرد الواحد في أكثر من وظيفة مثلاً عضو في فريق إعلامي متطوع وموظف في مؤسسة بحثية متخصصة و/أو ينتمي لحزب سياسي. وآخر ستجده رجل أعمال أو عضو في رابطة طبية متخصصة وهكذا
-
هناك بعض الوحدات الخادمة للجماعة ستتطلب نوع من المحافظة أو هيكلية ثالثة مختلفة. فمثلاً لو أرادت الجماعة أن يكون لها امتداد ثوري يتملك القوة للدفاع عن النفس أو لحماية المكتسبات سيكون ذلك في إطار مختلف لا يتبع الجماعة إدارياً ويكون في عضويته أفراد متخصصين بعيدين عن باقي الوظائف المعلنة والظاهرة. كذلك الحال في إدارة الجانب المالي الخاص بتشغيل الوحدات والمؤسسات التخصصية المفرغة لمهمة ما.
الديناميكية الثلاثية في التغيير:
عموماً ما يمكن رصده من حراك داخل أروقة الإخوان يتلخص في ثلاث عناصر يخرج بإذن الله من مخاضهم مولود جديد – أو إعادة ميلاد – لجماعة (وليس بالضرورة تنظيم) أقدر على رفع اللواء وقيادة الركب وسيادة الكون:
أولاً: غبش الرؤية:
يوجد لغط كثير حول خريطة الطريق أو المنهج الذي يجب أن يتبناه الإخوان في الفترة الحالية. فلا يخفى على أي عاقل أن المنهج الذي رسمه الإمام الشهيد طاله ثلاث سمات تحتم حالياً تجديده:
-
تغير الظروف بطريقة شديدة التسارع (راجع “تسارع التغيير” في المقالة السابقة) وتبدل عناصر البيئة المحيطة بالجماعة بطريقة جذرية
-
اختلاف لا تخطأه العين حول كثير من الثوابت/المتغيرات التي تبدو متناقضة لدى العقل الجمعي والقلب الواعي لأفراد الجماعة مثل متلازمة السلمية/القوة أو الإصلاح التدريجي/الثوري
-
عدم تغطية أدبيات المنهج المكتوب – خاصة في مرحلة التنفيذ (وليس التعريف والتكوين) – أو ممارسات الإمام المؤسس وممارسات الآخرين من بعده للمواقف الحالية المستجدة مثل ماذا بعد الوصول للسلطة، وكيفية إدارة الدولة، والخطوات التفصيلية العملية للأستاذية، أو شرعية الرئيس/الإمام المختطف المأسور وواجب الجماعة نحو تحريره، وكيف يتم كسر انقلاب ما على الشرعية وخلافه
طبعا لا يختلف كثيرون عن أن الأفكار العامة الأساسية ل”رؤية” الإمام المؤسس (في رسائل التعاليم والمؤتمر الخامس وغيره) واضحة جلية تنبع من صحيح الإسلام، ولكنها على جانب آخر جهد بشر ليست صالحة لكل زمان ومكان. وطبعاً إذا رجعنا للنبع من قرآن وسنة لن نستطيع أن نقول أنهما فرطا في شيء ولكن أيضاً إسقاط مقاصد القرآن ومواقف السنة وسير الخلفاء المهديين على الوضع الحالي يحتاج لجهد واجتهاد، وفقهاء وقادة، وفكر وتجديد، وممارسة وتجربة تكاد تماثل أو تفوق نفس التجربة الناضجة التي جدد بها البنا عصره.
ثانياً: سيولة التنظيم
بسبب عدة عناصر مركبة منها الثورة الحديثة في تقنيات الاتصال ونمط التواصل بين البشر (سرعته ومعدل تكراره وثراء محتواه… الخ) ومنها انتهاء صلاحية عدة استراتيجيات تنظيمية من التسعينات مثل جدلية علنية/سرية الدعوة والتنظيم، والدعوة الفردية. كما أن بعض العوار الطبيعي بدأ يطفو على السطح في شكل التنظيم الحالي (راجع “الثقافة التنظيمية” في المقالة السابقة) بسبب تغير مفجيء حدث في وظيفة الجماعة عندما وجدت نفسها فجأة أم إدارة دولة معقدة في منتصف ٢٠١٢ ولا يتوفر لها أدواتها ولا حتى الحد الأدنى من تأطير هذه الأدوات.
وكذلك أيضاً حدثت سلسة من الأحداث تزلزلت معها بعض الثوابت خاصة في ركن الثقة في الرموز والقيادات بسبب أحياناً بعض التصرفات غير الحكيمة – في حدها الأدنى – من القيادة بجانب انحسار دور العقلية الجمعية التنظيمية المسماه بلجان التربية عن جيل الربيع العربي الذي خرج في الشارع وسبق قياداته واهتزت لديه – وفي بعض الأحيان تحطمت – بعض الرموز والقيادات التقليدية. هذا بدوره أوصلنا إلى تنظيم هرمي ضعيف متفكك أركانه ومتعدد كياناته ومتضارب رؤوسه إما فعلياً ظاهرياً مثل في البلد الأم وفي تركيا والسودان أو معنوياً باطنياً في أقطار أخرى مثل أوروبا والخليج.
ثالثاً: الثقافة المتناقضة
وهي أكثر العناصر التي طالها التغيير، فنجد أن المسافات في بعض قناعات الإخوان الفكرية تباعدت أحياناً وتقاربت أحياناً مع مدارس متناقضة مثل البرهامية في طرف والسلفية الجهادية في الطرف الآخر رغم تمايز ثقافة الإخوان سابقاً –بالوسطية غالباً – عن هذه المتناقضات. كذلك حدثت ظاهرة تعتبر حميدة رغم أنها نتجت عن حالة الشك وتوابع الفشل والإخفاق ومعاناة الأسرى والثكلى والمطاردين وهي ظاهرة الانفتاح على الآخر والخروج من التقوقع حول الذات وتكسير صنم الغرور التنظيمي.
براءة إلى الصف الإخواني:
يملك الصف خيارين، إما أن تتحول ديناميكية التغيير سابقة الذكر لريح عاتية لا تبقي تنظيماً ولا تحافظ على وظيفته وتكون بمثابة رصاصة الرحمة لهذا التنظيم الغارق في مشاكله، وهو خيار سهل بسيط وكل ما على الصف أن يفعل هو أن يستمر في سلبيته وواستسلامه للمتناقضات الإدارية والعطب التنظيمي و وينام قرير العين أمام قطار الشيخوخة حتى يأذن الله بقوم آخرين يحبهم ويحبونه، لا يخافون في الله لومة لائم ولا يعطون الدنية في دينهم، لا يركنون إلى الغرب أو الشرق ولا يقبلون بالمهانة والضيم، لا يقدسون الأشخاص ولا يتخذونهم آلهة من دون الله، يفهمون جيداً معنى الجهاد بغير إفراط أو تفريط ولا جبن أو تهور. يعلمون جيداً أن لهذا الكون رب يدبر أمره لا يعجزه أحد ولا يحيطون بعلمه إلا بما شاء.
أو على جانب آخر يستطيع الصف الإخواني أن يجعل هذه العناصر قبلة حياة ومنحة من قلب المحنة وبذرة لميلاد جديد وقبلة حياة للجسم المنهك إن هو خرج عن صمته وأفاق من غيبوبته التنظيمية وصنع نخب وكوادر جديدة إيجابية فاعلة تقوده لثورة داخلية تهدم الأصنام الزائفة وتجلي الحقائق المغيبة وتصنع حراك صريح وصادم لحلحلة هذه المعضلة وتخرجه من ظلمة التنظيم المنغلق التائه في شيخوخته لسَعة الجماعة المنفتحة على أمتها والساعية لأستاذيتها.