تجذبني بعض أفلام الخيال العلمي أو الفنتازيا التي يتم بناؤها على فرضية نهاية العالم. وفي أفلام قديمة وحديثة عديدة تتحدث عن المستقبل، بعد حدوث حربٍ كبرى تدمر العالم كله، تبدأ المشاهد الأولى للفيلم في مستعمرةٍ يعيش فيها من نجوا من الدمار الشامل، أو مثل رواية يوتوبيا للدكتور أحمد خالد توفيق، أو أن يحكي الفيلم عن المعيشة البدائية لمن تبقّى من البشر، بعد تدمير الكوكب في الحروب النووية، أو أن يعيش البشر في كوكبٍ آخر، بعد التلوث الإشعاعي في كوكب الأرض الذي لم يعد يصلح للحياة.
وبشأن قصصٍ خيالية كثيرة في عشرات الأفلام السينمائية، كثيرا ما سألت نفسي: هل يمكن أن يحدث هذا؟ وفي أي عصرٍ وأي جيل، هل يمكن أن نستيقظ يوماً على اشتعال حربٍ عالميةٍ ثالثة بشكل مفاجئ؟ كنت أستبعد إمكانية حدوث مثل تلك الخيالات. ولكن، بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، أخيراً، أصبحت لا أستبعد أي شيء، خصوصاً أننا نعيش مرحلة حربٍ باردة بالفعل، وهناك حربٌ بالوكالة جارية، الولايات المتحدة والسعودية من جانب أمام روسيا وإيران في الجانب الآخر.
صحيح أن هناك معاهدات واتفاقيات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، في نهاية حقبة الحرب الباردة، بعد سباق التسليح بين المعسكرين، وهناك اتفاق على عدم تدمير العالم، لكن الحرب الباردة عادت مرة أخرى.
اشتعلت الحرب العالمية الأولى التي قتل فيها الملايين، بسبب اغتيال ولي عهد امبراطورية النمسا والمجر، على يد مراهق صربي، واشتعلت الحرب العالمية الثانية على يد مجنونٍ متعصبٍ، جاء إلى السلطة عن طريق الانتخابات في ألمانيا، فما بالك الآن، وقد أصبح العالم أكثر حماقة من قبل!
وبعيداً عن النزعة التشاؤمية وأفلام الخيال العلمي، هناك أصوات كثيرة في العالم ترى أن العالم أصبح أكثر حماقةً مع انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة. وفي ما يخصني، لم أشعر بالمفاجأة من هذا الخبر، ولن أندهش إذا وصلت ماري لوبان إلى قصر الإليزيه في فرنسا، فالعالم يتجه نحو اليمين المتطرّف، ونحو مزيد من الجنون والكراهية والإقصاء. والواضح أن عدوى اليمين في انتشار وازدياد في العالم كله، بعد الإخفاقات الأخيرة لبعض تجارب اليسار الديمقراطي، أو الديمقراطية الاجتماعية التي حققت نجاحاتٍ كبيرة في أوروبا وأميركا الجنوبية عدة عقود.
ولكن، لن يكون فوز ترامب أو لوبان أو أي رئيس قوي، في نظر مؤيديه المتطرفين، حلاً لمشكلات العنف والتطرّف والإرهاب حول العالم، بل سيكون وقودا لمزيد من الحروب والعنف والإرهاب، فاليمين المتطرّف يتغذى على بعضه. سيتغذّى أبوبكر البغدادي على حماقات ترامب وعنصريته ضد المسلمين، كما يفعل عبد الفتاح السيسي، مثلاً، في مصر، يستغل حماقة الإسلاميين المتطرفين وعنفهم لتثبيت حكمه.
إنها العملية المضمونة، الشعبوية وصناعة الخوف، الأعداء في الخارج والحل هو انتخاب الرجل القوي الأكثر دمويةً من الأعداء، ويستطيع إرهابهم وردعهم، ولا بد أن تخافوا من الأعداء، وتلتفون حول المنقذ، فهناك تهديدات الإرهابيين أو المسلمين أو المخرّبين أو الكفار أو الصليبيين أو أعداء الوطن أو الطابور الخامس أو الأشباح أو سكان الفضاء.
والعجيب، على الرغم من أنه لم يعد هناك أي عجيب، أن تجد أن كثيرين ممن هللوا لفوز ترامب هم أيضاً ممن يتشدّقون دوماً بالقومية والعروبة والمقاومة والممانعة ونصرة القضية الفلسطينية. ولم يقتصر التهليل لفوز ترامب على أنصار السلطوية، بل إن مدّعي العروبة والممانعة أيضا، هللوا لأن ترامب “الصهيوني صراحة” سيصبح صديقاً للسيسي “السلطوي صراحة”، وبالتالي، سيقلل من الضغوط على النظام المصري، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، فترامب من أنصار الرأي المتعصب الذي يزعم أن الديمقراطية لا تتناسب مع العرب والمسلمين. لذلك، سيكون في عهد ترامب “الصهيوني” كثير من السماحية للتضييق على الحريات في الدول الحليفة، وسيكون هناك كثير من الدعم للأنظمة المستبدة الحليفة التي تحقق المصالح الأميركية، كما كانت المعادلة في أيام حسني مبارك. وسيتم التغاضي عن شرط احترام الحريات وحقوق الإنسان الذي يكون مرفقاً مع اتفاقيات المنح والمعونات والمساعدات العسكرية التي يتم توجيهها إلى الدول “الحليفة”، ولا عزاء للشعارات التي يتم استخدامها للتخوين والتكفير والإرهاب.
في اسرائيل أيضاً احتفالات وأفراح بفوز ترامب، فهو القادم من الحزب الجمهوري والمدعوم
من الـ”تي بارتي” و”إيباك”، فإسرائيل تحتفل الآن برحيل أوباما والسنوات العجاف والانتقاد العلني للاستيطان والتراشق اللفظي، وليس سراً موضوع تحول ابنتي دونالد ترامب إلى الديانة اليهودية، وتزوج ابنته الكبرى من رجل أعمال يهودي، داعمٍ كل ما تقترفه إسرائيل من انتهاكات، وهو صهره نفسه الذي يوصف بأنه ساعد ترامب الأيمن. وكذلك ليس سراً علاقة الصداقة الوطيدة والقديمة والراسخة بين رجل الأعمال الأميركي دونالد ترامب ورجل الأعمال الإسرائيلي، يعقوب شحام، وها هو الأسد يتجاوب، أخيراً، مع تصريحات ترامب، ويعطي عنه ردوداً إيجابية، مثل سيده فلاديمير بوتين في روسيا، المتوقع أن يكون له دور أكبر في الشرق الأوسط في عهد ترامب الذي أعلن عن إعجابه ببوتين.
ولكن، بشكل قد تكون هناك مفاجآت كثيرة، وقد يخالف ترامب كل التوقعات، فالقرار الأميركي لا يكون للرئيس وحده، على الرغم من أن نظام الحكم رئاسي صريح. ولكن، هناك مؤسسات تقتسم السلطة، وتقيد كل منها الأخرى، كما تحتم الديمقراطية، فكما أن هناك البيت الأبيض ومؤسسة الرئاسة، هناك أيضاً الكونغرس والبنتاغون، وهناك أيضاً وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، وهناك مراكز التفكير والأبحاث التي تسهم أيضاً في صنع القرار.
ولن يتغير شيء بالطبع في العلاقة الوثيقة بين البنتاغون والجيش المصري. ولن يختلف التنسيق الأمني بين المؤسسات الأمنية والاستخباراتية، هنا وهناك، فالمصالح الاستراتيجية لا تتغيّر بتغير الرؤساء، فمنذ أنور السادات حتى السيسي، مروراً بالمشير حسين طنطاوي ومحمد مرسي، ومنذ جيمي كارتر حتى ترامب مروراً بكلينتون وأوباما، هناك مصالح متبادلة لا تتغير بتغير الرؤساء، أهمها حماية أمن إسرائيل وحدودها، والتنسيق الأمني الثلاثي المصري الإسرائيلي الأميركي، وتأمين المرور العسكري الأميركي من قناة السويس.
ولكنه أيضاً عصر المفاجآت التي قد لا يمكن توقعها في عصر الاختيارات المجنونة، وكذلك عصر تصاعد الخطاب الشعبوي وقيم الإقصاء والكراهية والعداء للآخر، واستخدام الفزّاغات والتخويف من كل ما هو خارج المنزل.