إن كنا نظن أن كل ما رأيناه في حلب، من قتل وحرق وقصف ودمار، هو الخراب، وإن كنا نعتقد أن الشعر تكثف المجاز ومعنى الشاعر، وحسب؛ فإننا نخطئ مجددا ومجددا. لم يكن الخراب بعد، ولم تكن نبوءة مظفر: “سيكون خرابا”، مجازا للعراقي الحزين. سيكون خرابا.
لم تكن حلب، وحدها، ما تحترق وتضيّع ملامحها. لقد كانت هنا أجمل ذكرياتنا ومظاهراتنا وأغانينا، لقد كانت أجمل ما فينا، فأحلتموها مقابر وصفصفا وكوابيس، فتحملوا كابوس الحقيقة لما قتلتم جمال الأحلام.
لقد كنا ثائرين، نحمل المعنى والجدوى والمغزى في ظل نجماتنا الثلاث ورايتنا الخضراء، فأردتمونا ثائرين، لا نحمل إلا ثأرا يكبر مع الأيام، متسلحين بأحلامنا القتيلة/ وجوه أحبتنا القتلى/ ذكرياتنا الذبيحة/ خوفنا/ حقدنا/ خذلاننا/ عجزنا، رايتنا “عظمتان وجمجمة، وسلاحنا الصباح”.
كل هذا الدم والتوحش والعنف والقتل العشوائي اليومي العلني على الشاشات، دمنا المشرع المستباح، لن يخرج جيلا من الرسامين والشعراء، بل جيلا يسمع خبر الموت مثل أغاني المدرسة، ويصادق الموت مثلما يشاهد برامج الأطفال، ويلعب في الركام مع روح إخوته المستشهدين مع أمهم تحت الركام.
قد نخسر حلب، وقد نخسر إدلب، وقد نخسر دمشق، وقد نخسر الثورة كلها، لكننا حاشا أن نخسر الثأر، أن نخسر الغضب المقدس الذي تراكم عقودا وانفجر. قد نخسر دمعنا من اعتياد الموت في المجازر كل يوم، لكننا حاشا أن نفقد وجوه الراحلين الذين مسسنا معهم خطيئة الحلم يوما. قد نفقد الأرض لكننا لن نفقد السلاح، وقد نخسر الثورة لكننا لن نحيا إلا بالثأر، ثارا كبيرا مستمرا مع الأيام.
كنا نبني حلمنا بانتظار نور نهاية النفق، لكننا بعد اليوم لم نعد نصادق إلا الظلام.
قد كان أحمد أبازيد، شاعرا ومفكرا وأديبا، فأردتموه اليوم يحمل السلاح على الجبهات، صارخا بوجوهنا، ووجوهكم: خلقنا للثورة لا للتباكي؛ خلقنا للعدم لا للحلم، للدم لا للدمع، للسلاح لا للفرح.
إن الحاضرة حين تسقط يكون سقوطها مدويا بحجم تاريخها ووزنها، ولا تسقط وحدها؛ تسقط معها حضارتها وعمقها، وحاضرها ومستقبلها، ولا تبقي بحضرة كل هذا السقوط سوى الاحتضار.
قيل لما سقطت القدس: سيكون خرابا، وقيل لما سقطت بغداد: سيكون خرابا، وقيل لما أخذوا القاهرة: سيكون خرابا، واليوم هذا خراب آخر، خرابا شبيه بزلزال حلب القديم، ذاك أن ثقل العرب السنة الهلال الخصيب، صار حلقة الوصل في الهلال الشيعي، وقصد المتنبي وقلعة الحمداني صارت مرتعا للمرتزقة وشذاذ الآفاق.
كنا نخرج هاتفين بأقدس ما آمن به الإنسان يوما: حريته وعدالته وكرامته، معنى وجوده الإنساني الذي اختاره الله لأجله، وسنبقى، كذلك، نهتف بأقدس ما لدينا وما سيحفظ لنا الإنسان، اليوم، ذلك أن الخير قد يكون أخضر، وحينا قد يكون أحمر، و”إن شاء الله خير، كله إلى خير”.
كنا نستشهد لتكون كلمة الله هي العليا، لما خلقنا من أجله أحرارا كراما ساعين لتمثل عدالته وتحقيقها، واليوم نستشهد دون أرضنا وعرضنا ومالنا، في رحلتنا، نحن، الذين كنا رحمة الله من الحلم، بعد أن صرنا عدالته، إلى العدم؛ ومن الحياة، إلى قصاص الحياة.
نحن الذين كنا نغني أهازيجنا الوطنية، صرنا اليوم لا نغني إلا “عبد الله الإرهابي”، لمظفر: “بعض الناس خطايا فادحة يا عبد الله، وبعض الناس قصاص.. نحن قصاص”، ونحن الذين كنا نعد يوما وحينا بالوطن، صرنا نغني في رحلة دون كيشوت الأخيرة، رحلتنا نحن:
ما زالت “لا” في كلمات اللغة هي الأجمل
ما زلت جموحاً لا أخشى شيئاً خارج هذا الجسد المتهاوي
لا أخشى غير الخوف (سنقتله قبل البدء برحلتنا)
لا أخشى غير الأمل الخادع (بخلعه قبل البدء برحلتنا).
هات جوادي
ارفعني كي أعتلي السرجَ وسلّمني الدربْ.
زوادتنا فارغةٌ من أي طعام أو شُربْ.
إن بادرك اليأس من الرحلة ودّعني
إن كنت ظللت كما كنت المؤمن بالسعي وبالهدف وليس المؤمن بي
إن فاض القلب بحبِّ المجنون الكهلِ العاجزِ فاتبعني عن قُرْبْ
وتهيَّأ للضرب
وتذكّر دوماً أني لم أقطع وعداً بالنصرِ،
أنا لم أضمن إلا استمرار الحربْ.