ترجمة: صفاء مسعود
يبدو أن انتخابات عام 2012 لن تتمحور حول السياسة الخارجية الأميركية بل حول الاقتصاد، إلا
إذا وقعت أزمة خارجية كبرى (مثل شن اعتداء إسرائيلي على إيران، أو إقدام إيران على تفجير سلاح نووي، أو اندلاع حرب في الشرق الأوسط، أو حدوث اعتداء من جانب كوريا الشمالية، أو أي حدث من هذا النوع). بالتالي، تكثر الشوائب في السياسة الخارجية التي تطبقها الإدارة الأميركية الراهنة، لكن يجب أن يكون ميت رومني حذراً عندما ينتقد وضع المراوحة، نظراً إلى المفارقات والتناقضات السائدة.
ماذا عن الحرب على الإرهاب؟ يجب أن ننسى العبارات السخيفة مثل “عمليات الطوارئ في الخارج”، و”الكوارث من صنع البشر”، ويجب أن نتغاضى عن النفاق الذي أثير بعدما جرت عمليات تعذيب بالإيهام بالغرق لثلاثة إرهابيين معروفين بالإرهاب، بينما في الوقت نفسه يتم تفجير أكثر من ألفي مشتبه في أنهم إرهابيون (وجميع من يحيطون بهم)، ويجب أن نتجاهل الجهود الباردة المترددة التي ترتكز على استعمال معتقل غوانتانامو أو محاولة إغلاقه في آن واحتمال إرسال خالد الشيخ محمد إلى محكمة مدنية. ما وعد به أوباما شيء وما قام به على أرض الواقع شيء آخر، فهما أمران مختلفان تماماً. في الحقيقة، تبنى أوباما ووسع جميع البروتوكولات التي أقرها بوش وتشيني بعد أن عارضها حين كان مشرّعاً وسيناتوراً ومرشحاً للرئاسة. لاشك أن امتناع أوباما عن الإشادة بدور جورج بوش الابن الذي أقر خطة زيادة القوات العسكرية وإنقاذ العراق وأعد الإجراءات الخاصة بالعمليات التي تشبه تلك التي قتلت بن لادن، يشير إلى أنه شخص جاحد ولا ينم سلوكه هذا عن سياسة خارجية فاعلة، بما أن الحرب على الإرهاب أصبحت الآن عملية ناجحة قائمة منذ 11 عاماً.
لكن يجب التنبه إلى أمر لافت في هذا المجال. غالباً ما تؤدي الكلمات إلى عواقب وخيمة في نهاية المطاف. ربما كانت السذاجة المستمرة التي طبعت هذه الإدارة (اعتبار “الإخوان المسلمين” جماعة “علمانية”، التباهي بعظمة خطاب القاهرة، تحريم استعمال عبارة “الإسلام المتطرف”) تهدف إلى إظهار قناع مبرر سياسياً لتفسير إصرار أوباما على متابعة تطبيق بروتوكولات بوش وتشيني، لكن ربما أدى هذا النهج أيضاً إلى إقناع الأعداء بأن الولايات المتحدة تتخذ موقفاً مبهماً من الإسلام المتطرف ولا تربطه بالضرورة بأعمال الإرهاب التي تستهدف الولايات المتحدة.
نظراً إلى الإرهاق الأميركي من حربَي أفغانستان والعراق، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الهائلة، كانت إدارة أوباما محقة حين احترمت رغبة الرأي العام بعدم التدخل مجدداً، ولكنها عززت بذلك السياسة الانعزالية التي تدعم نشوء عالم متعدد الأقطاب، حيث تكون الولايات المتحدة واحدة من القوى النافذة المتعددة.
بعيداً عن الحرب على الإرهاب، ما المجالات العشرة التي تستحق الانتقاد في هذا المجال؟
1- فضيحة الملف الأمني : سرّبت إدارة أوباما أخطر الأسرار بشأن العمليات الأميركية السرية (الحرب الإلكترونية ضد إيران، برنامج الاغتيالات بواسطة طائرات “بريديتور”، العميل اليمني المزدوج، عملية اغتيال بن لادن) في محاولةٍ واضحة للتفوق على الجهود السابقة التي كانت سرية في مجال مكافحة الإرهاب. كان هذا الأمر شائناً ولم تتضح بعد جميع عواقب تلك الخطوة الكارثية.
2- في البداية ، لم تكن الإدارة الأميركية تهتم كثيراً بالربيع العربي، لكن سرعان ما انجرّت إليه بسبب احتمال سقوط حسني مبارك آنذاك. على صعيد آخر، كانت سياسة القيادة من وراء الكواليس غير متماسكة، وكان سقوط القذافي في المرحلة اللاحقة حدثاً مثيراً للجدل. كان قرار عدم التدخل في سورية حكيماً مع أن الأسباب التي تبرر عدم التدخل هناك بقيت مبهمة. لايزال أوباما خجلاً من تجربة العراق وهو يصر على تجاهلها دوماً (مع أن العراق يضم حتى الآن واحدة من أكثر الحكومات التوافقية الجديدة في العالم العربي)، كما أنه لا يميز بين “الإخوان المسلمين” والحركات الديمقراطية العلمانية. بالتالي، بدلا من تشجيع كل من اعتبر أن الربيع العربي قد يمهد لنشوء مجتمع تعددي، انسحب أوباما من الواجهة وترك الإسلاميين يسيطرون على الوضع، على طريقة الخميني، ثم وصفهم بالأشخاص الديمقراطيين مع أنهم يفضلون إجراء انتخابات حرة لمرة واحدة فقط كما حصل مع حركة “حماس” ورجال الدين الإيرانيين.
3- من الواضح أن سياسة إعادة ضبط العلاقات مع روسيا كانت فاشلة تماماً. لم تستفد الولايات المتحدة بشيء حين أحرجت دولة التشيك وبولندا بسبب الدفاع الصاروخي. ولم يقدم بوتين أي مساعدة لمعالجة الملف الإيراني. على صعيد آخر، تلاشت سريعاً الانتقادات الظرفية لانتهاكات حقوق الإنسان في روسيا. يفترض بوتين الآن أن أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة تخضع لعقيدته الروسية الخاصة. يبدو أن نشوء محور جديد يتألف من روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية قد يهدد بقيام منطقة نووية تعزل المصالح الأميركية.
4- تجاهل أوباما أقرب الحلفاء لدرجة أن الولايات المتحدة قد لا تجد من ينضم إلى معسكرها في حال احتاجت إلى تشكيل تحالف جديد. لم تحصل كندا على أي إشادة بعد مشاركتها في حملة أفغانستان وهي لاتزال غاضبة بسبب أزمة خط أنابيب “كيستون”. يعترف أقرب حلفاء الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، بأن واشنطن أصبحت الآن حيادية في أزمة جزر الفوكلاند (بما في ذلك جزر المالديف)، وأن الولايات المتحدة ستمتنع عن تقديم المساعدة في حال أقدمت الأرجنتين على غزو المكان مجدداً. تعرف إسرائيل من جهتها أن الولايات المتحدة التي تكون حيادية في أفضل الأحوال لا تهتم كثيراً إذا أصبحت إسرائيل محاطة بدول إسلامية قريباً. كذلك، لا يمكن التأكيد بعد الآن أن الأميركيين سيمنحون إسرائيل جميع الإمدادات اللازمة خلال حربها المقبلة. في المقابل، تشعر تركيا وحركة “حماس” وجماعة “الإخوان المسلمين”، للمرة الأولى في التاريخ، بأن الولايات المتحدة باتت تتعاطف مع قضاياها أكثر مما تفعل مع إسرائيل. كذلك، تشعر فنزويلا وكوبا غير الديمقراطيتين والدول الشيوعية الشقيقة في أميركا اللاتينية بأن الولايات المتحدة أصبحت صديقة لتلك الحركات الشمولية (التوتاليتارية)، ويعبر عدد من الديمقراطيين الإقليميين عن تلك المخاوف نفسها.
5- التزم الرئيس أوباما الصمت عندما نزل نحو مليون محتج إيراني إلى الشوارع في ربيع عام 2009، فبدا كأنه مقتنع بأن نواياه الحسنة التي تركز على تقبل تعدد الثقافات تحتم تقديم فرصة لمراعاة النظام الديني الذي يقوده الخميني (أو كأن المحتجين الذين ينادون بالديمقراطية كانوا أشبه بالمحافظين الجدد الذين يفتقرون إلى المصداقية). كان ذلك القرار مخجلاً ومجحفاً بحق الشعب الإيراني الذي كان يبحث في تلك الفترة عن الديمقراطية، وقد قدّم الشعب بذلك آخر فرصة لمنع تصنيع قنبلة إيرانية من دون تنفيذ أي نوع من التدخل العسكري.
6- لايزال التركيز المستجد على منطقة آسيا مبهماً حتى الآن. لم تعد اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية تثق بأن الولايات المتحدة المترددة ستهبّ للدفاع عنها في حال نشوء أزمة وجودية. هل
لاتزال تلك البلدان تحت المظلة الأميركية النووية أم ان تلك المظلة بدأت تتقلص أصلاً؟ يتضح عجز الولايات المتحدة عندما تعمد إلى الاقتراض من الصين وإلقاء المحاضرات على مسامعها في الوقت نفسه. كان توقيت التركيز على منطقة الشرق سيئاً جداً، فقد بدأ حلف الأطلسي يفقد أهميته في اللحظة التي أقدمت فيها أوروبا الجنوبية المفلسة على إطلاق حرب إعلامية ضد ألمانيا التي تزداد قوة. في ظل تفاقم أزمة منطقة اليورو، تبرز حاجة ملحّة إلى وجود الولايات المتحدة القوية في أوروبا أكثر من أي وقت مضى.
7- رغم تنامي النزعات المعادية للديمقراطية في حكومة أردوغان في تركيا، جعل أوباما سياسته في الشرق الأوسط تتمحور حول تلك الحكومة ولم يتنبه إلى أن سياسته المبنية على نزعة “الأسلمة” تشكّل نموذجاً لإضعاف نتائج أي انتخابات تدريجياً.
8- كانت الاعتذارات المفرطة وحركات الانحناء أمام شخصيات أخرى مجرد مبادرات سخيفة، ولكنها تشير جميعها إلى تردد الولايات المتحدة وتراجع نفوذها. بعد أن أصبحت تلك المسائل نقاط جدل يطرحها اليمينيون، سرعان ما تلاشى الكلام عن هذا الموضوع، ما يعكس أن مستشاري أوباما أدركوا بدورهم أن خيارات الرئيس العالمية بدأت تضر بالمصالح الأميركية.
9- كانت إضافة 5 تريليونات دولار إلى الدين الوطني أمراً كارثياً على مستوى السياسة الخارجية الأميركية. فقد فقدنا بذلك ورقة الضغط التي كنا نملكها ضد الصين وتلاشت مصداقية واشنطن حين تقدّم النصائح إلى الاتحاد الأوروبي لمعالجة انهياره المالي. أدى ذلك أيضاً إلى تقليص الخيارات المطروحة في الشرق الأوسط. على صعيد آخر، تلوح في الأفق تخفيضات دفاعية هائلة الآن. في هذا الصدد، تبين أن بعض القرارات، مثل عدم عرض الأراضي الفدرالية للإيجار مجدداً وإلغاء صفقة “كيستون”، كانت خطوات مؤثرة على الصعيد الاستراتيجي، لأن الحصول على مليونين أو 3 ملايين برميل من إنتاج أميركا الشمالية كان ليمنح الأميركيين نفوذاً أكبر في منطقة الخليج العربي، وكان ليخفف الحاجة إلى الدائنين الخارجيين.
10- بفضل سياسة حذقة مغايرة، كان أوباما يستطيع إنقاذ الوجود الأميركي لمراقبة وضع الديمقراطية العراقية وعمليات التخريب الإيرانية الفاضحة. كان الإخفاق في هذا المجال مفارقة لافتة بما أن الإدارة الأميركية تريد الآن زيادة مستوى القوات الأميركية بشكل جذري في دولة الكويت المجاورة.
يجب ألا تركز حملة رومني (على طريقة اليسار المعادي لبوش) على طرح الانتقادات العشوائية، لأن أوباما تابع السياسات الناجحة التي ورثها عن سلفه في ملف الحرب على الإرهاب. في المقابل، ثمة سياسات كثيرة من صنع أوباما وحده وهي خطيرة بالفعل.
"فيكتور ديفيز هانسون" هو مؤرخ عسكري أمريكي وكاتب مقالات سياسية وأستاذ وباحث فى الحروب القديمة والحديثة والسياسة المعاصرة واستاذ بجامعة كاليفورنيا.