عقد منذ أيام في موسكو مؤتمرا هاما لبحث تسوية الأزمة السورية، بين وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وإيران وتركيا، وهو مؤتمر يذكرنا بمؤتمرات الدول المتحاربة التي عقدت عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، لفرض الشروط أو توزيع الغنائم. وبالفعل فقد أتى هذا المؤتمر بالعديد من الدلالات الهامة، من حيث المكان والزمان والأطراف المدعوة والأطراف الغائبة، وأخيرا في نتائجه التي توصل إليها المجتمعون عبر ما سمي بـ “إعلان موسكو”.
أهم ما جاء في إعلان موسكو (رقم 1 في المصادر):
1- بيان روسيا وإيران وتركيا يؤكد سيادة ووحدة أراضي سوريا كدولة ديمقراطية وعلمانية.
2- إطلاق مفاوضات سياسية شاملة يجب أن تشمل كل المكونات العرقية في سوريا.
3- الأولوية في سوريا هي لمكافحة الإرهاب لا لإسقاط النظام.
44- روسيا وإيران وتركيا مستعدون لوضع اتفاق بين السلطات السورية والمعارضة ومستعدون ليكونوا جهة ضامنة.
55- كما أكدوا العزم على محاربة داعش والنصرة بشكل مشترك وعزل المعارضة عن الإرهابيين في سوريا.
***
1- دلالة المكان:
لأول مرة منذ عقود طويلة يتم عقد اجتماع دولي حول قضية دولية ملتهبة في العاصمة الروسية موسكو؛ فمنذ انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفييتي؛ دأبت الدول العظمى على عقد المؤتمرات الدولية الكبرى عادة في عواصم غربية (مدريد – أوسلو – واي بلانتيشين- واي ريفير – جينيف – لوزان…إلخ)
دلالة انعقاد المؤتمر الأخير تشير إلى الموضع الهام الذي استعادته موسكو على الساحة الدولية، كنتيجة مباشرة لحالة الفراغ الناتجة عن تبادل إدارتين في أميركا، وكنتيجة غير مباشرة لتراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة، وترسيخ أوباما لمبدأ القيادة من الخلف Leading from behind فاسحا المجال لدول أخرى في المنطقة لتنفيذ أجندة واشنطن، بينما هذه الدول إما أنها:
أ- ليست على قدر المستوى لتملأ الفراغ الذي تركته واشنطن (كفرنسا في سوريا، ودول الاتحاد الأوروبي في مواجهة روسيا بعد احتلال القرم)
ب- بعضها حليف مع روسيا نفسها (مثل إيران التي تنفذ الجندة الأميركية في العراق، وهي في متحالفة مع روسيا في سوريا)
جـ – وعجب العجاب أن أميركا تعتمد على روسيا نفسها لتنفيذ الأجندة الأميركية في بعض الملفات، عملا بمبدأ القيادة من الخلف (مثلما اعتمدت على روسيا في ملف كوريا الشمالية، وفي الملف السوري أيضا، سواء عسكريا أو في مجلس الأمن، لاسستخدام الفيتو بدلا منها على قرارات تدين نظام الأسد منعا لإحراجها أمام حلفائها)
لقد رسخ اجتماع موسكو الانطباع السائد أن روسيا صارت الدولة المفتاح Key state التي يمكنها حل الأزمة السورية، وهذا مكسب روسي أراده بوتين في حد ذاته، كما أراد ترسيخ فكرة أن روسيا هي القادرة على جمع الأطراف المتحاربة بالوكالة في سوريا (تركيا وإيران) إلى طاولة المفاوضات، في وقت تراخى المجتمع الدولي كثيرا، وتبين أن الخط الأميركي الأحمر لبشار الأسد ليس خطا، كما أنه ليس أحمرا بما يكفي!
***
2- دلالة الزمان:
أتى اجتماع موسكو بعد أيام قليلة من سقوط حلب بيد النظام، وهو ما يلقي بظلاله حول استحجالة أن يكون قد رُتب لهذا الاجتماع بعد سقوط المدينة بيد النظام! الأكثر منطقية أن هذا الاجتماع كان مرتبا له، وكان جميع الأطراف ينتظرون ذلك فقط لبدء المفاوضات السياسية على أنقاض حلب!
وقد بدأ التساؤل عن الدور التركي في سقوط المدينة، وصار خلاف كبير بين أنصار أردوغان ومنتقديه في مسؤوليته عن التخلي عن حلب؛ خاصة مع زيارة رئيس الووزراء التركي بن علي يلدرم إلى موسكو قبل أسبوع من سقوط المدينة وتصريحه لوكالة انترفاكس الروسية أنهم لاعلاقة لهم بحلب، وأن مسألة بقاء الأسد لا تعنيهم من قريب أو من بعيد! (رقم 2 في المصادر)
بدا للبعض أن أردوغان حصر أهدافه في سوريا حصرا في منع إقامة دولة كردية، بتفتيت الشريط الكردي الواصل من الحسكة في الشرق إلى غرب نهر الفرات. ولتحقيق ذلك كان لا بد له من السيطرة على مدينة الباب الاستراتيجية (38 كم من حلب) ثم التوجه إلى منبج وربما الرقة عاصمة داعش.
وفي سبيل ذلك قام أردوغان في وقت مبكر بقك ارتباطه بالمعارضة الإسلامية في سوريا، ووصف وزير خارجيته عقب اجتماع لوزان، أكتوبر الماضي، جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) بأنها إرهابية وعليها مغادرة حلب (رقم 3 في المصادر)، كما توقف دعم السلاح للمقاتلين في حلب، بينما توطد التحالف بينه وبين المعارضة العلمانية المرضي عنها غربيا (الجيش السوري الحر) في إطار عملية درع الفرات!
هذه الشكوك لم تأخذ وقتا طويلا حتى تتأكد، فقد أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن عملية تحرير حلب جرت بالتعاون الوثيق مع الزملاء من تركيا وإيران، وهو ما يؤكد بكل أسف الدور التركي في سقوط المدينة! كما وجه بوتين الشكر لكل من تركيا وإيران وللنوايا الحسنة لبشار الأسد، وأكد قبول هذه الأطراف جميعا حضورها المؤتمر الدولي المزمع عقده قريبا في كازاخستان (حديقة روسيا الخلفية) للتفاوض حول وقف إطلاق النار في سوريا! (رقم 4 في المصادر)
3- دلالة الأطراف المدعوة والأطراف الغائبة:
كان من البديهي حضور روسيا التي تقاتل بطائراتها في سوريا، وإيران التي تقاتل بميليشياتها على الأرض، إلى جانب تركيا، لكن كان من الغريب للغاية تجاهل واشنطن في اجتماع هام كهذا، وقد حاولت الخاريجة الأميركية أن تقلل من أهمية هذا التجاهل!
روسيا أرادت ترسيخ مكانتها الدولية كقوى عظمى مستقلة في سياستها، كما قلنا وليس كـ ” مجرد قوة اقليمية لا يزيد دخلها القومي على دخل اسبانيا” كما استهزأ بها المتحدث باسم البيت الأبيض ذات مرة، وتركيا أيضا أرادت أن تبتعد عن الغرب في تدشين سياسة دولية مستقلة خاصة بها، خاصة بعد الانقلاب الفاشل المدعوم غربيا في 15 يوليو/ تموز الماضي!
لقد وجدت أنقرة في موسكو حليفا بديلا عن الغرب، ولو مؤقتا ومرحليا لمنع إقامة دولة كردية، ولو من باب المناورة في حال تلكأ الغرب في تلبية احتياجات أنقرة، بتلويحها بورقة التعاون مع الروس!
كما كان غياب السعودية لافتا، ربما لحضور إيران، ولكن تم إطلاعها بطبيعة الحال على نتائج اللقاء.
الخلاصة:
كل طرف كان حريصا على حصوله على حصة مناسبة من الغنائم في سوريا، روسيا حفظت موطئ قدم في المياده الدافئة في المتوسط، وها هي اليوم بدأت بنشر كتيبة من الشرطة العسكرية الروسية في حلب.
وإيران أبعدت خصومها العسكريين من حلب، التي اعتبروها الجبهة الأمامية للثورة الإيرانية، وسوقوا معركة حلب كانتصار هم في أشد الحاجة إليه بعد كل الأثمان التي دفعوها، وأفرجت عن بعض المحاصرين من قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين المحاصرتين في المقابل.
أما تركيا فبدأت بالتوجه نحو مدينة الباب الاستراتيجية فور سقوط حلب، عازمة على منع إقامة دويلة كردية، مهما كان الثمن.
المصادر:
1- “إعلان موسكو” حول سوريا بعد اجتماع روسيا وإيران وتركيا:
https://goo.gl/6GZfNt
22- رئيس الوزراء التركي في موسكو قبل سقوط حلب بأسبوع: عملية “درع الفرات” لاعلاقة لها بحلب، ولا تهدف لتغيير النظام السوري
https://goo.gl/Aavzz8
33-تركيا: “يجب تطهير حلب من إرهابيي النصرة.. وعلى المعارضة أن تنفصل عنها”
4- كازاخستان توجه دعوات لحضور مؤتمر حول سورية
https://goo.gl/6ql3zM
5- صفحة الكاتب على فيسبوك:
https://goo.gl/7yqlPb