مصر المأمولة التي اتفقنا في المقال السابق على أن نسعى أن نبنيها رغم محاولات الهدم وبث روح الإحباط بين شعبها. فالمكائد كثيرة والصعوبات أكثر، وقد بيّنا في مقالنا (الموت الصامت سلاح السيسي لقتل الشعب) كيف أن الإحباط هو سلاح في يد أعداء هذا الشعب لقتل طموحه وإعادته للمربع رقم صفر، حيث لا روح ولا رغبة.
تلاحظون أن فكرة الهجرة دائما ما تطرح في أي مجلس، ويسلط عليها الإعلام الضوء دائمًا، هذه الخدع قد قومت من شعوب سبقتنا إلى الديمقراطية، دعونا نسميها حكم الحرية وإنهاء الاستبداد.
لكن في الحقيقة نحن نحتاج إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي، وهي المرحلة التي تسبق التحول الديمقراطي، ومثال على ذلك فترة المجلس العسكري من الحسبة، لأنها فترة صراع من أجل الديمقراطية حاول المجلس العسكري الالتفاف على الثورة بتمديد حكمه، وما بعدها وهي فترة حكم الرئيس محمد مرسي التي تعدّ فترة انتقالية بامتياز، حيث كتب الدستور وكان ينتظر برلمانًا منتخبًا ثم مجالس محلية تحت حكم لا مركزي للوصول إلى مرحلة التحول الديمقراطي، وهي الفترة التي يبدأ فيها الثوار حماية مكتسباتهم الديمقراطية من أجل ترسيخ التجربة الديمقراطية في البلاد.
وقد سبقتنا تجارب كثيرة في قارة آسيا، وكذا في قارة أمريكا اللاتينية، ومن الأخيرة اخترت لكم تجربة تشيلي.
هذا الاختيار لم يأت عشوائيا، فالتجربة التشيلية عاشت ظروفًا أقرب ما تكون لظروفنا، حيث الاستعمار ثم حكم طائفة مستبدة بعينها كالحكم العسكري في بلادنا،كما أن حالة الفساد المالي والسياسي الذي عاشته تلك البلاد جعلت شعوبها تقدّم تضحيات كبيرة للوصول إلى ممارسة الديمقراطية التي تقرها أنظمتها السياسية الشرعية.
نالت تشيلي استقلالها من الاستعمار الإسباني في عام 1818، وبعد الاستقلال تأسس حزبا المحافظين والتحرريين. شهدت البلاد بعدها حربا أهلية قصيرة نظرا للحكومات الضعيفة التي تداولت على التشيلي،حتى بسط المحافظون سلطتهم على الحكومة لمدة ثلاثين سنة صاغوا خلال تلك الفترة دستورًا أرسى دعائم حكومة مركزية قوية، ومنح رئيس الدولة سلطات واسعة. وفي عام 1925 تم الإعلان عن دستور جديد نص على انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب، لتتوالى الحكومات والرؤساء على تشيلي من كارلوس دل كامبو إلى إدواواردو موناليفا، شهدت خلالها البلاد صعودا وهبوطا سواء على المستوى الديمقراطي والسياسي أو على المستوى الاقتصادي.
وفي سنة 1970 تم انتخاب سلفادور أليندي والذي التزم بتحويل تشيلي إلى دولة اشتراكية، استولت حكومة أليندي بسرعة على ملكية مناجم النحاس بالإضافة إلى العديد من البنوك الخاصة وصناعات متنوعة أخرى – لاحظ – كما خططت برنامجًا واسع النطاق لإصلاح الأراضي، وحاولت في الوقت نفسه منع زيادة أسعار المواد الاستهلاكية؛ ومع هذا حدث نقص فادح في المواد الغذائية وارتفع التضخم المالي من 20% سنة 1973 ليبلغ أكثر من 350% سنة 1973- وكأن التاريخ يعيد نفسه في مصر- ولذلك عمّت الإضرابات وقام مؤيدو ومعارضو أليندي بمظاهرات عمت كامل أرجاء البلاد وعملت المعارضة في المجلس التشريعي والطبقة البورجوازية- وهي بمثابة طبقة رجال الأعمال في بلادنا – على إضعاف حكومة أليندي وعندئذ قام قادة عسكريون وبمساندة المخابرات الأمريكية في سبتمبر عام 1973 بالإطاحة بالحكومة وقتل الرئيس أليندي وشكل القادة العسكريون مجلسًا بقيادة اللواء أوجستو بينوشية لحكم تشيلي ولقي آلاف التشيليين حتفهم في القتال الذي دار بين المؤيدين والمعارضين للمجلس السياسي مما دفع بالمجلس إلى أن يزج بالكثير من معارضيه في السجون وتم حل المجلس التشريعي وقيدت حرية الصحافة وحظرت الأحزاب السياسية، وقد أدى التذمر الكبير في أوساط الشعب التشيلي جراء قمع المعارضة وتقييد الحريات والحقوق كحرية التعبير والصحافة وحق التظاهر وعدم تحسين ظروف العمل والانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان من اختطاف قسري وقتل وتعذيب وزج في السجون دون محاكمات إلى حراك شعبي ذهب إلى انتخابات أطاحت ببينوشية والذي فتح الباب أمام الانتقال إلى الديمقراطية.
والناظر إلى ما سبق يجد أن الظروف في مصر مشابهة لدرجة التطابق بين الفترة التي عاشتها تشيلي وبين ما تعيشه مصر، لكن العناصر المقوية للذهاب لهذه المرحلة في تشيلي كمنت في وجود مجتمع مدني قوي وواعي ومنحاز للحقوق والحريات دون أي توجهات أيدلوجية ، كما أن الشعب كان مؤمنا بالعملية الديمقراطية بما يعني أن الاستئثار كان ممنوعا على الأحزاب في فترة الانتقال الديمقراطي، وقد أهل تشيلي للذهاب لهذه المرحلة عراقة التجربة الديمقراطية السابقة على الحكم الشمولي، وهو ما عرفته مصر في أوائل القرن الماضي.
وأخيرا فإن تجربتنا للانتقال الديمقراطي تعيش ظروف مؤهلة للدعوة لها عبر أوساط المجتمع بكامله، حيث أن الديكتاتورية الأسوأ هي تلك التي تجمع بين الحرمان السياسي والاقتصادي وهو ما تعيشه مصر في هذه المرحلة.
كل ما علينا أن نعمل ونجتهد ولا نيأس ونؤسس لعمل مدني قوي قد يلقى في بدايته صعوبة لكنه سيستقر مع الوقت، هذا العمل المدني الذي به تتم التوعية والتأهيل لمرحلة الانتقال، فدعوتي للشباب ألا تنتظروا قيادة تحرككم وكن أنت الرائد وتحرك من أجل مصر المأمولة.