المعارضة السّورية ذاهبة إلى الآستانة، ومن قبلها فينا وجنيف، ومن بعدها قد تذهب إلى عواصم أخرى…
ونتيجة لهذا الأمر انقسمت المعارضة السّوريّة المسلّحة إلى فريقين:
ـ فريق قَبِلَ الذّهاب إلى الآستانة، وهذا الفريق يحوي فصائل إسلاميّة، ويحوي فصائل من الجيش الحر.
ـ وفريق رفض الذّهاب إلى الآستانة، واعتبر الذّهابَ خيانة وهزيمة..، وعلى رأس هؤلاء هم تنظيم القاعدة، ومن يدور في فلكهم…
والسؤال الهام: هل الذهاب إلى الآستانة، ثمّ إلى جنيف، هو أمر صائب أم أنّه خيانة وهزيمة…!!؟
أو بعبارة أخرى، هل الحلّ السياسي في هذه الأوقات الحرجة من عمر الثورة السورية هو خطأ أم صواب استراتيجي..!!؟
أم أنّ الآستانة وأخواتها نتيجة لمقدّمات طبيعيّة..!!؟
إنّ ما يجيب على هذا ذلك، ليس العواطف والأمنيات، أو الإيديولوجيات؛ بل هو الواقع المحلّي والدولي.
أمّا الواقع المحلّي: فقد مضت سِتُّ سنوات على الثورة السورية، وهي في تراجع على المستوى العسكري والسّياسي والإنساني، ووصل النّظامُ بعد سقوط حلب إلى مرحلة القوّة، وبات النظام يحصل على المدن والبلدات المحاصرة بالضغط العسكري، ليصل بعد ذلك إلى الهُدَن التي هي بحقيقتها استسلام لإرادة النظام وأهدافه، ولم يبق للثوار إلا إدلب وجزء من حلب ودرعا، وجميع هذه المناطق في خطر شديد… ويقابل قوّة النّظام الضّعف الشديد في الفصائل الثورية، وتقهقرها، فستّ سنوات من القتل والتدمير والتّشريد والتعذيب للسوريين…كلّ ذلك وأكثر، لم يجعل هذه الفصائل أن تأخذ بأسباب القوّة التي فرضها الله، على الرغم من أنّ أغلبها توصف بأنّها فصائل إسلامية؛ بل بقيت متفرّقة، ومتناثرة، ومتصارعة، وتكيد لبعضها، وتخوّن بعضها، وفي كثير من الأحيان تقتل بعضها…!!!
أما الواقع الدولي: فالنّظام السّوري لديه حلفاء يعملون معه بمنتهى المصداقية، وعلى المستويات الدبلوماسيّة والسياسية والعسكريّة كافّة ، وعلى رأسهم روسيا وإيران والميليشيات الدولية، والذي كاد أن يحسم المعركة لصالح النظام السوري هو التّدخل الروسي الدّمويّ العنيف…
والثورة السورية ليس هناك دول عظمى تقف إلى جانبها؛ بل على العكس، فإنّ أصدقاء الثورة السورية وعلى رأسها أمريكا وأوربا خذلوا الثورة، وليس لهم أيّة مصلحة في رحيل النظام السّوري، وسياساتهم هي المسؤولة الحقيقيّة عن دمار سوريا ومآسيها…أما عن تركيا والسعودية وقطر، إذا سلّمنا جدلاً بصدق نواياهم، فهم ليسوا دولاً تستطيع مجابهة الدّول العظمى؛ بل إنّ تركيا لم تسلم من أخطار تلك الدّول، وما الانقلاب الفاشل، ومحاولة توريط تركيا بحرب مع روسيا إلا مثالين على ذلك…
ونستطيع أن نقول بكلّ موضوعيّة: نتيجة للواقع المحلّي والدولي، أصبح نظام الأسد، والثوّار بفصائلهم المختلفة، أصبح الفريقان لعبة في أيدي المجتمع الدولي، والحلّ ليس بأيديهم؛ بل بأيدي المجتمع الدولي، والمجتمع الدولي مصالحه متناقضة في سوريا، لذلك طال عمر الثورة السورية، وكثر معه الخراب والدمار…
وبالنتيجة الحلّ سيفرضه المجتمع الدولي على الطرفين، وبالطريقة التي يراها المجتمع الدولي، وبالتالي لن يكون هذا الحلّ في مصلحة أيّ من الفريقين، وبكلمة أدق: لن يكون الحلّ في مصلحة سوريا التي يحلم بها السوريون؛ بل هو في مصلحة إسرائيل، ومصلحة الدول الإقليمية، والعالمية الفاعلة.
ووفقاً لما ذكرت، فالمعارضة التي ذهبت إلى الآستانة، ذهبت تحت ضغط الدول الخارجية، وعلى رأسها تركيا، وتحت ضغط ضعفها العسكري.
وكذلك ذهب النظام إلى الآستانة تحت الضّغط الروسي، وتحت ضغط الضعف العسكري.
ولكن قد يقول قائل: كان من الأفضل ألا تذهب الفصائل إلى الآستانة أو جنيف، ويسلكوا نفس مسلك تنظيم القاعدة…
نقول: لو توحّدت الفصائل السّورية تحت راية واحدة، وقائد واحد، وابتعدت عن الإيديولوجيات المتناقضة، لكان من الممكن الرفض، لكن وفق هذا التّشرذم، والصّراع، والتّقاتل…، لا يمكن إلا وأن تخضع إلى إرادة الأطراف الدولية، فلو لم تخضع لأغلقوا الحدود، وقطعوا المساعدات العسكرية والمدنية، ودعموا النظام أكثر، فبذلك قد تنهار الفصائل، ويتم القضاء على الثورة…
ومن هنا نستطيع أن نؤكّد أنّ الذهاب إلى الآستانة أو جنيف، أو قبول الحلّ السياسي، ليس في باب الصواب أو الخطأ، أو الأمانة والخيانة؛ بل هو نتيجة لمقدّمات طبيعيّة قد قدّمناها على مدار ستّ سنوات. فالمقدّمات عند السياسيين والعسكريين في المعارضة السورية هي: التشرذم، والضّعف، والاقتتال، والمصالح الشخصيّة، وقصر النظر…والنتيجة هي أن يخضعوا لما يريده أعداء الثورة السورية ، فطبيعي أن تكون النتيجة هي الذّهاب إلى الآستانة أو جنيف، أو أن تُقام في سوريا دولة علمانية، أو تُقام دولة فيدرالية، أو يتمّ تقسيم سوريا …فهذه وأمثالها نتائج طبيعيّة لمقدّمات غير عقلانيّة…
أمّا ما يقوله تنظيم القاعدة، وما يرفعه من شعارات، وبأنّهم سينتصرون على كلّ العالم ، ولو اجتمع عليهم، وأنّ بلاد الشام في كنف الله ولابدّ أن تنتصر…فهذا الكلام وغيره حق، لكن أريد به باطل؛ لأنّهم لم يأخذوا بقوانين النصر التي أمر اللهُ عبادَه المؤمنين أن يأخذوا بها، فما يزالون في تناحر وصراع مع الفصائل السورية، وما يزالون في مقولات التكفير والتخوين، وما يزالون يعتبرون أنّ منهجهم هو الصواب، وما سواه باطل…
وليتذكّرْ أهلُ الشام جميعاً أنّه لا نصر من دون الأخذ بالأسباب، فكلّ شعارات الدُّنيا، ومقولاتها الصادقة، لا تحقق نصراً على أهل الباطل…
ولا يكفي أن تكون صاحب حق؛ حتى تنتصر، وتعلو قِيَمُك ومبادئك؛ بل لابدَّ للحقّ من قوّة تحميه، وتعلو به، ليعيش حرّاً كطيور السماء..