مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وانتشار مفهم الحرب على الإرهاب، الذي قصد منه تحديدا ما سمي في الغرب “بالإرهاب الإسلامي”، بدأت علاقة الدول الغربية بأقلياتها المسلمة تشهد توترا، وبدأ المسلمون في تلك الدول في محاولة نفي تهمة الإرهاب عن أنفسهم تارة، وعن الإسلام تارة أخرى.
وفي خضم هذا التوتر، وهذا الاتهام المباشر بالإرهاب الذي تواجهه الأقليات المسلمة في الغرب عند كل حادث إرهابي يقع في تلك الدول، بدأ يظهر على السطح سؤال الهوية من جديد: هل الدول الغربية فعلا لجميع مواطنيها؟؟ أم أن بعض هؤلاء المواطنين عقبة في طريق الاندماج، بالضبط كما كان اليهود في شرق أوربا عقبة أمام تكون الدول القومية الحديثة؟؟
***
هذا السؤال يعود بنا قليلا للوراء، حين كان المجتمع الأوربي في العصور الوسطى قائما على الإقطاع بشكل رئيسي، وكان اليهود يلعبون فيه دور التاجر أو المرابي، الذي يمول الدولة بالأموال التي تحتاجها، ويأخذها من المواطنين أضعافا مضاعفة، مما جعلهم في كثير من الأحيان مكروهين من الناس، وتقوم عليهم الثورات، ومعرضين للطرد والنفي خارج البلاد (كما حدث في انجلترا وفرنسا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر).
وبالعودة إلى واحد من أهم من درسوا تاريخ الأقليات اليهودية، نجد الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله يقول في كتابه المهم “الأيديولوجية الصهيونية”:
“كان القرنان الثاني عشر والثالث عشرهما العصر الذهبي لسيادة اليهود في مهنة الربا ،كما كان أيضا العصر الذهبي لحركة بناء الكاتدرائيات وشن الحروب الصليبية (والتي تحتاج طبعا لاموال ضخمة)”
ويقول أيضا: “كلمة “يهودي” أصبحت مرادفة لكلمة “تاجر” أو “مرابي”، وتاجر البندقية (شايلوك في مسرحية شكسبير الشهيرة) هو في الواقع “مرابي” البندقية أو “يهوديها”، كما كان الناس كثيرا ما يتحدثون لا عن “الدائن والمدين” بل عن اليهودي والمدين”
(عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية – عالم المعرفة عدد ديسمبر 1982 – صـ 18-19)
وحين تغيرت أوربا، وبدأت في التحول نحو الدول القومية الحديثة، فشل يهود شرق أوربا الذين كانوا يعيشون في “جيتو” خاص بهم من الاندماج، وكانوا يصرون على ارتداء زي خاص بهم، وعدم ارتداء البدلة ورابطة العنق، وأصروا على التحدث بلغتهم (العبرية أو اليديشية) ورفضوا التحدث بلغات أوطانهم (الألمانية أو الروسية)، كما كان لهم نظامهم التعليمي الديني الخاص بهم ورفضوا الدخول في المدارس والجامعات، رغم الامتياازات التي منحتها هذه الحكومات للمواطنين، والعقوبات التي غلظتها على من يرفض الامتثال والاندماج!
هذا كله دفه كارل ماركس إلى كتابة كتابه الشهير المسألة اليهودية، ويقصد به المسألة اليهودية ليهود شرق أوربا، وظلت هذه المسألة تؤرق اليهود والدول الأوربية معا، حتى جاءت الحركة الصهوينة، وطرحت نفسها حلا لهذا الإشكال، وأنهم ستخلص الأوربيين من هذه المشكلة، بدفع اليهود للاستطيان في فلسطين!
ويرزت حينئذ وجهتا نظر في الغرب تجاه التعامل مع الأقليات اليهودية التي ترفض الاندماج:
أ- وجهة نظر هتلر المتأثر من ناحية بأفكار نيتشه التي تعلي من المصلحة دون أي اعتبارات أخلاقية، وعن القوي الذي يسود ويأكل الضعيف، والمتأثر سلبا من ناحية أخرى بدور اليهود السلبي في خسارة ألمانيا الحرب العالمية الأولى!
وقد عبر هتلر عن هذه الأفكار بالإبادة التي قام بها ضد سلالات كثيرة، منها السلاف والغجر واليهود، بل وصل الأمر إلى الإجهاز على الجنود الألمان أنفسهم المصابين بشكل خطير في الحروب، فلماذا ينفق عليهم وعلى علاجهم إذا لم يكن هناك طائل منهم، ولن يستطيعوا الحرب بعد ذلك؟؟
ب- وجهة نظر انجلترا؛ التي أرادت التخلص من المسألة اليهودية من ناحية، وضمان عدم اتحاد الدول العربية من ناحية أخرى، فقبلت بالحركة الصهيوينة وتبنتها، لضرب عصفورين بحجر واحد!
وحين فكر تيودور هيرتزل (وقد كان علمانيا ويعتقد أنه كان ملحدا) في عدة أماكن لتكون موطنا للدولة اليهودية الجديدة، منها (أوغندا والأرجنتين) رفضت بريطانيا بشدة، وحملته على الدعوة للاستطيان في فلسطين تحديدا، لأسباب دينية متعلقة بالمذهب البروتستانتي الذي تعتنقه بريطانيا وأميركا، والذي يربط بين نزول المسيح وظهور الفساد في الأرض المقدسة، وأسباب مصالحية، لزرع كيان صهيوني استيطاني يمنع اتحاد الدول العربية بعضها بعض، كما اسلفنا من قبل.
وازداد التصاق الحركة الصهيونية بالغرب بعد محرقة هتلر، وصارت معاداة السامية العدو الذي بنى عليه الغرب كثيرا من بنيانه الأخلاقي والسياسي، وصارت قوانين الكثير من الدول الغربية تنص على تجريم معاداة السامية!
ورغم أن العرب واليهود معا من أبناء سام، إلا أن الكلمة قصد بها اليهود تحديدا، حفاظا على وحدة المجتمعات الأوربية، وعامل استقرار لها، بدمج اليهود مع غير اليهود فيها، تحت مظلة الدولة العلمانية الحديثة، كما صار مصطلح الوقوف ضد معاداة السامية ذريعة لحماية إسرائيل بشكل مطلق وشرعنى اختلالها للأرض العربية، وتبرير الجرائم التي تقوم بها!
***
لا توجد مجتمعات بلا ثوابت إذن، فلكل مجتمع ثوابته، وثوابت كل مجتمع تخالف من مجتمع لآخر! ليس صحيحا الإدعاء أن الغرب يعيش بلا ثوابت وأنك يمكنك فعل كل شيء في الغرب! صحيح أن المرء يمكنه في الغرب الإلحاد والاستهزاء بالرسل والأنبياء والمسيح عاليه السلام شخصيا، لكن هذا لأن الدين لم يكن يوما من ثوابت الدول الغربية الحديثة (على عكس الدول العربي والإسلامية التي تقدس الدين جدا).
الفارق أن الثابت في الدول العربية يختلف عن الثابت في الدول الغربية! فصحيح أن الدين ليس ثابتا من ثوابت الغرب لكن الحرص على عدم معاداة السامية من ثوابته، وخطط أحمر لا يمكن لأحد الاقتراب منه!
وحين شكك المفكر الفرنسي روجيه جارودي في ضخامة الأرقام التي يدعي اليهود أن هتلر قد قتلها (رغم أنه لم ينف الواقعة نفسها) حكمت عليه محكمة فرنسية بالسجن سنة، وجعلتها مع إيقاف التفيذ للتخفيف من الفضيحة!
هناك ثوابت في الغرب أيضا، لكنها تختلف عن ثوابتنا، ويريد الغرب منا أن نتخلى عن تلك الثوابت، لتكون ثوابتنا هي ذات الثوابت الغربية، وهو ما عبرت عنه الآية القرآنية الكريمة بجلاء تام منذ 1400 عام حين قالت: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) البقرة 120
***
إن الغرب الآن يواجه مشكلة مع الأقليات المسلمة فيه، مثل تلك التي كان يواجهها مع يهود شرق أوربا في عصر التنوير، مع الفارق أن اليهود كانوا رافضين لحركة الإندماج التي حاولت الدول القومية الحديثة القيام بها في أوربا، عكس الأقليات المسلمة الراغبة بقوة في الاندماج في المجتمعات الغربية الحديثة، ولكن بثوابتها الدينية، ومنظومتها القيمية، وهو ما يرفضه الغرب! فالغرب لا يريد من المسلمين فقط أن يأكلوا أو يتعلموا مثل الغربيين (كما كان يطلب من اليهود) بل يطلب منهم أن يتنازلوا أيضا عن أفكارهم ومعتقداتهم أيضا، أليس هذا إرهابا فكريا؟؟
وهذا التيار الذي يعادي الإسلام والمسلمين في الغرب نجح في إفراز رئيس لأكبر دولة توصف بأنها زعيمة العالم الحر، ، مع تهديدات برؤساء وحكومات أخرى في أوربا تتبع ذات النهج، وهذا إن حدث فسيعد تقويضا لمفهوم الدول الغربية الحديثة، وسقوطا لصنم الديمقراطية، وهزيمة قاسية لمفهوم المواطنة الذي رفعته تلك الدول وبشرت به، ونهاية النموذج الغربي بعد نهاية النموذ الشيوعي (وهذا ما يخيف كثيرين في الغرب)، ولن يتبقى في هذا العالم نموذج يتفهم مشكلات الأقلية، ويدافع في نفس الوقت عن حقوق الأغلبية إلا النموذج الإسلامي، الذي ثبت أنه الأكثر وسطية، والأكثر تفهما لنفسية الإنسان وتكوينه ومشاكله واحتياجاته!