يوجد بعض الساسة الغربيين الذين أثار انتخابهم حماسا وأملا في الغرب والشرق، وفي الشمال والجنوب، مثل باراك أوباما. ولكن يوجد كذلك بعض الساسة الذين تسببوا في حيرة وخيبة أمل حول العالم مثل أوباما. ومن ثم فإرثه بكل تأكيد سيكون مثيرا للجدل. بعد الحربين الكارثيتين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، والإستراتيجية سيئة الإعداد في “الحرب على الإرهاب”، مثل انتخاب أوباما أملا وبداية جديدة نحو إعادة معايرة السياسة الخارجية للولايات المتحدة وإعادة التفكير بوضعها في العالم. كان هذا ذا أهمية خاصة في إعادة تأهيل علاقات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأكبر.
بهذا الأسلوب، نُظِر إلى خطابات أوباما الجياشة والبليغة في تركيا ومصر وكأنها إقبال حقبة جديدة بين الجانبين. كان تأكيده على الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية والحوكمة الرشيدة والتطور الاقتصادي ملهما وجديرا بالملاحظة بصورة خاصة، بالنظر إلى ميل الولايات المتحدة السابق نحو دعم الأنظمة السلطوية في المنطقية دون اعتبار تقريبا لأي من هذه القيم. كانت المرحلة على أي حال مهيأة جيدا لبداية جديدة في علاقات المنطقة، والتي كان من المقرر أن تدعمها القيم المشتركة من ديمقراطية وحقوق إنسان وتقدم اقتصادي، إضافة إلى الرفض الذي طال انتظاره لأطروحة الاستقرار السلطوي. تمثل ملاحظة سياسات أوباما الخارجية، وبالأخص سياساته الإقليمية، وتحليلها، لي أكثر من مسألة فضول سياسي أو تحليلي. إنها مسألة شخصية جدا أيضا. صرتُ وزير خارجية تركيا بعد تولي أوباما المنصب بفترة قليلة جديدة، تحديدا في الأول من مايو/أيار 2009. وأدت ثلاثة عوامل على الأخص إلى رفع سقف توقعاتي لرئاسته وإلى شعوري بالتفاؤل بالاحتمالات المستقبلية لسياسته الخارجية.
“جـسـارة الأمــل”
أولا: كان انتخاب رئيس أسود في ذاته خبرا سعيدا للولايات المتحدة وللعالم كله، وهي الفكرة التي عبرتُ عنها في أبريل/نيسان 2002 في مؤتمر في جامعة برينستون، قبل ظهور احتمالية رئاسة أوباما بوقت طويل. اعتقدت أن خيارا كهذا سيعكس الطبيعة الاستيعابية للمُهمشين لسياسة الولايات المتحدة والهوية الأميركية. كان نهوض هذه القيم وتبنيها في سياسة الولايات المتحدة وترويجها من خلال السياسة الخارجية الأميركية سيصير أحد أقوى مصادر دعم استيعابية المهمشين والتنوع في جميع أنحاء العالم. وبما أن الحدود بين السياستين الداخلية والخارجية قد صارت بسيطة أكثر من أي وقت مضى، فإن التداعيات السياسية لمثل هذا التطور المثالي في السياسة الداخلية الأميركية سيشجع على التغيير الإيجابي حول العالم.
ثانيا: توقعنا أن تتبع إدارة بوش التدخلية والأحادية العسكرية تعددية تشاركية جديدة. رغم خبرتنا بهذه الأمور، ترقبنا تعددية تشاركية مهمة ومسؤولة، والتي لم تكُن لتنزلق لتصير دبلوماسية سلبية وسياسات التزام غير مهمة بتلك السهولة.
ثالثا: كما هو موضح سلفا، توقعنا أن يتجاوز هذا التأكيد على حقوق الإنسان والديمقراطية الخطابات ويشكل جزءا لا يتجزأ من سياسة الولايات المتحدة، خاصة تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ليس هذا التوقع -ولم يكن- توقعا معياريا ولا مثاليا، وأعتقد أن هذه السياسة الإقليمية كانت أيضا ستأتي بنتائج إيجابية لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. كانت هذه السياسة في الحقيقة ستوسع الدوائر الاجتماعية والسياسية للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، والتي تقتصر في شكلها الحالي على مثلث الأمن والسياسة الخارجية والنخب الاقتصادية التي تقف شرعيتها، ومن ثم بقاؤها، الآن على المحك.
تـوقـعـات لـم تـتـحـقـق
لذا، كان انتخاب الشعب الأميركي أوباما عام 2008 في رأيي متماشيا مع روح العصر، واعتقدتُ أن سياسته الخارجية ستعكس أيضا القيم والتطلعات المرتبطة بها.
لم تتحقق هذه التوقعات. لقد اتسمت سياسته الخارجية بالفشل وخيبة الأمل والحيرة أكثر من النجاح أو الأمل “الجسور”. أبعدت الولايات المتحدة حلفاءها المعتادين وشجعت أعداءها. ظل الدفاع عن الديمقراطيات أو ترويج التعددية والأصول والكرامة الإنسانية فاترا على أفضل تقدير.
كي نكون عادلين، بدأ أوباما بداية صحيحة ولكنه لم يكمل الطريق خلال فترته الرئاسية. كان ينطق العبارات السليمة بغزارة، ولكنه لم يتبعها بالأفعال السليمة. كان يعرض رؤية حميدة ولكنه لم يدعمها بأفعال ذات عواقب. باختصار، كانت هناك فجوة هائلة بين الخطاب والتنفيذ.
رغم أن البلاغة قد تكون من الخصائص الشخصية المحمودة، فإنها ليست بديلا عن الرؤية السياسية، ولا الشجاعة، ولا السياسات المسؤولة. فضلا عن أننا كنا عاجزين للأسف عن تحويل حوارنا الشخصي الفعال مع إدارة أوباما إلى تقدم سياسي في القضايا والمواضيع الواقعة ضمن الاهتمامات والمصالح المشتركة.
لنكن أدق، توسطت تركيا في أربع دورات من محادثات السلام بين إسرائيل وسوريا لتسوية النزاع بين الفترة منذ عام 2007 حتى نهاية 20088. حققت المحادثات، التي توسط فيها فريقٌ بقيادتي، تقدما لدرجة أنه بحلول نهاية 2008، توقع كثيرون أن يوقع البلدان اتفاقية تسوية سلمية. ولكن الغزو الإسرائيلي لغزة أخرج العملية عن مسارها.
شعرنا بالخيانة بطبيعة الأمر من جراء حقيقة أن إسرائيل قد اختارت الحرب ثانية في اللحظة التي كان من الممكن فيها الوصول إلى اتفاقية سلام، وأنهم لم يعلمونا بنيتهم في خوض الحرب رغم أن إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، كان قد خاض حديثا مطولا على العشاء مع رئيس وزرائنا آنذاك، رجب طيب أردوغان، في تركيا قبل أيام من الغزو. تزامن هذا الانحراف عن المسار مع بدء رئاسة أوباما. كان سيصير لمعاهدة سلام بين إسرائيل وسوريا -إن وُقعت- أثر كبير فارق على المشهد السياسي الإقليمي. كانت على الأرجح ستُعد بداية جديدة للعلاقات بين بلاد الشام وفيما بعد المنطقة الأكبر. ومما أصابنا بالحيرة أن إدارة أوباما اختارت عدم استثمار أي طاقة أو جهد في إنعاش هذه المبادرة.
لنسرع المشاهد وصولا إلى 2011؛ فقد تبنت إدارة أوباما الموقف المنطقي السليم فيما يخص سوريا. إذ أعلنت عدم شرعية نظام الأسد في أغسطس/آب 2011، قبل أن تفعل تركيا الأمر نفسه. في الحقيقة، في التاسع من أغسطس/آب 2011، خضتُ حديثا مطولا دام ست ساعات مع الأسد نفسه.
واتفقنا على إطار عمل من 14 نقطة للانتقال السلمي ومهلة مدتها أسبوعين كي يعلن فيها هذا الإطار بعد الاستعدادات اللازمة. أعلمنا نظراءنا الأميركيين بالصفقة. ومع ذلك كانت إدارة الولايات المتحدة متلهفة لإعلان عدم شرعية نظام الأسد، وهو ما فعلته بعد أسبوع فقط من اتفاقنا على الصفقة. لا داع للقول إن نظام الأسد أيضا انتهك خلال هذه الفترة نفسها بنود هذه الصفقة عدة مرات، بعد ذلك، قطعنا كل صلاتنا بالنظام.
على نفس النحو، أدانت إدارة أوباما وحشية نظام الأسد، وكانت محقة، وطالبت بتغيير النظام، وأعلنت أن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر سيستفز ردا عسكريا ويؤدي إلى عواقب وخيمة على نظام الأسد. انتهك نظام الأسد منذ ذلك الحين كل هذه المواقف المعلنة والخطوط الحمراء وأفلت من العقاب بطريقة أو بأخرى، واستخدم على سبيل المثال الأسلحة الكيميائية في أغسطس/آب 2013.
وعلى الجانب الثنائي، رغم أن إدارة أوباما أعلنت عدم شرعية نظام الأسد مبكرا واتهمته بارتكاب جرائم خطيرة تشمل جرائم ضد الإنسانية، فإن الإدارة نفسها أثبتت عدم تعاطفها مع المصاعب والتحديات والتهديدات التي واجهتها تركيا بوصفها دولة مجاورة لبلد مزقته الحرب يحكمه اسميا نظامٌ غير شرعي. واجهت تركيا مجموعة واسعة من المشقات والتهديدات، بدءا من تدفق ملايين اللاجئين ومرورا بالإرهاب الناجم عن الموقف في سوريا من جانب داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وحزب العمال الكردستاني. بعبارة أخرى، كان هذا النظام غير الشرعي مصدر هذه التحديات والتهديدات التي عانتها تركيا، ومع ذلك كانت إدارة أوباما راغبة عن الاعتراف بذلك والتصرف على هذا الأساس. بل على العكس، ففي النهاية سمحت إدارة أوباما باستمرار وحشية الأسد بينما استمرت في دعم “حلفائه”، أعداء تركيا، على الأرض.
الآثـار الإقـلـيـمـيـة والـدولـيـة 2013
والأكثر من ذلك، أنه مثلما كانت تصريحات أوباما في القاهرة محمودة ومتطلعة للمستقبل ومشجعة، كان موقفه من الانقلاب العسكري على أول رئيس منتخب في أكثر البلدان شعبية في العالم العربي خاذلا ومحبطا. إن تسليح الثورة السورية والانقلاب في مصر وظهور داعش هي العوامل الثلاثة التي غيرت مجرى الحركات من أجل الديمقراطية والكرامة الإنسانية في العالم العربي. من هذا الجانب، كان عام 2013 حاسما. شجعت ردود أوباما على خرق هذه الخطوط الحمراء في سوريا والانقلاب في مصر أولئك الديكتاتوريين على ارتكاب المزيد من الفظاعات من أجل الاحتفاظ بالسلطة، واستُغِلت في روايات المتطرفين، وقوضت قضية الديمقراطية والكرامة الإنسانية. يتطلب فهم توسع داعش المطرد من 2014 فصاعدا استيعابا أفضل لما حدث في عام 2013.
بيد أن القصة لم تنتهِ عند هذه النقطة؛ إذ أرسل فشل الولايات المتحدة في عام 2013 إشارات إلى أعدائها وخصومها فحواها أن بإمكانهم الاعتماد على تراخي الولايات المتحدة. تلقت روسيا كما يبدو هذه الرسالة وفهمتها جيدا. يُزعم أن روسيا لم تكُن لتصير بهذا القدر من التحدي والإقدام في القرم وأوكرانيا عام 2014 وفي سوريا لاحقا منذ 2015 فصاعدا لو كانت إدارة أوباما قد استطاعت اتخاذ أفعال مطابقة لخطابها.
بعبارة أخرى، يعد نشاط روسيا من أوكرانيا إلى سوريا، من القرم إلى ليبيا، نتيجة مباشرة لحاجز الردع المتلاشي القائم على التزام الولايات المتحدة بحماية قواعد القانون الدولي وأهدافه المعلنة ومبادئه، افتراضيا أو وفق خطة منظمة. ربما سيتعامل المؤرخون المستقبليون مع عام 2013 بوصفه العام الذي شكل مسار العقود اللاحقة، وغير مجرى التغيير في المنطقة بأكملها، وأعاد تعريف ديناميكيات علاقات القوة العالمية.
الـمـفـاهـيـم الـخـاطـئـة والـحـلـول الـخـاطـئـة
للأسف، يبدو أن إستراتيجيات أوباما غير الفعالة أدت إلى إعادة صياغة المفاهيم الخاصة ببعض القضايا وإعادة قراءة الأحداث. سقط أوباما بسهولة في فخ استبدال الأعراض بالأسباب. فقد اختزلت الأزمة السورية تدريجيا في مجرد حرب أخرى على الإرهاب، هذه المرة في صورة تنظيم داعش، بالإضافة إلى الحاجة إلى المساعدة الإنسانية، في حين تم اختزال إيران في الملف النووي. تتجاهل هذه الرؤية المصدر الحقيقي للتوتر بين إيران وجيرانها، وهو سياستها الإقليمية. حتى على مستوى الملف النووي، اضطرت الولايات المتحدة إلى القبول باتفاقية أقل ملاءمة من تلك التي تفاوضنا عليها مع إيران، بالتعاون مع البرازيل، في مايو/أيار 2010. ما زلت أتذكر اليوم الأخير، حين استمرت مفاوضاتنا الصعبة مع الفريق الإيراني، بالتعاون مع زميلي سيلسو أموريم وزير خارجية البرازيل، 17 ساعة دون انقطاع.
كنا قد أبلغنا الولايات المتحدة عن جهودنا ونيتنا لتسوية النزاع. بعد مفاوضات طويلة ومرهقة، وصلنا إلى اتفاق في 16 مايو/أيار 2010. كنا نتوقع ردا إيجابيا من واشنطن، ولكن إدارة أوباما رفضت الاتفاق، فقط لأنه لم يتم عن طريق مجموعة خمسة + واحد. في ذلك الوقت، كانت قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم منخفضة نسبيا. بعد خمس سنوات، اضطرت مجموعة الخمسة + واحد إلى قبول اتفاق في وقت كانت إيران قد حققت فيه مستوى أعلى بكثير في مجال التخصيب. وأخيرا، في العراق، أعطت إدارة أوباما “الخروج من العراق” الأسبقية والأولوية على “تصحيح الأوضاع في العراق”.
تكررت معظم سياسات بوش الخاصة بالتدخل -غير المدروسة وقصيرة النظر- خاصة ولكن ليس على سبيل الحصر في الشرق الأوسط، في سياسة أوباما غير المناسبة بشأن الانسحاب من الشرق الأوسط. ويبدو أن فكرة وعقلية “الانسحاب” من الشرق الأوسط قد أتاحت لإدارة أوباما المجال لانتهاج سياسات غير منطقية، غير فعالة وغير مسؤولة تجاه المنطقة.
عقلية الانسحاب تلك لم تقتصر فقط على الشرق الأوسط: بدلا من ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة قررت الانسحاب من مسؤولياتها في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، كان من نتائج هذا “الانسحاب” أن إدارة أوباما فضلت استثمار الوقت والطاقة في قضايا مريحة نسبيا بدلا من التعامل مع الأسباب الجذرية للمشاكل الحقيقية. تحديدا، اختزلت إدارة أوباما طبيعة علاقاتها مع أوروبا في التفاوض على شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي، في الوقت الذي كان فيه مشروع التكامل الأوروبي يواجه أشد أزماته منذ إطلاقه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد ترك هذا حلفاء أميركا بين المطرقة والسندان.
تأثير جائزة نوبل
يمكن القول إن فوز أوباما بجائزة نوبل في وقت مبكر من رئاسته قد أضر بسياسته الخارجية، إذ شجعته على التمسك بالسلبية الدبلوماسية وعدم اتخاذ قرارات السياسة الخارجية التي كانت ستطلب خيارات صعبة واستخدام القوة الصلبة. تسبب هذا في شلل سياسته الخارجية. بالاستفادة من التجارب السابقة، كان يجب أن يفوز بجائزة نوبل عن إنجاز حقيقي، بدلا من أن يُعطى واحدة مقدما. لقد جاءت جائزة نوبل لأوباما في وقت مبكر جدا وبسهولة شديدة.
سوف يحكم التاريخ على سياسة أوباما الخارجية، وأغلب الظن أن الحكم سيكون قاسيا. بدلا من أن يصبح أوباما عنصرا تحويليا في السياسة الخارجية العالمية، اختار -على النقيض من خطابه- أن يكون سجين الوضع الراهن.
على الرغم من أن المؤشرات المبكرة ليست مشجعة، أمام الرئيس ترمب أربع سنوات، وهو ما يمثل فرصة جديدة لتصحيح السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه المنطقة والعالم.
دروس لإدارة تـرمـب
تتطلب السياسات الجيدة تحليلا دقيقا لما يحدث في العالم، وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط. بما أن المنطقة تمر بمرحلة تحول كبيرة، فمن المهم أن تبدأ إدارة ترمب في العمل على وضع سياسة إقليمية أكثر تطورا بدءا من اليوم الأول في منصبه. وفي هذا الصدد، توجد ثلاثة عوامل مهمة بشكل خاص، على الإدارة الجديدة أن تأخذها بعين الاعتبار عند صياغة سياسة خارجية وإقليمية جديدة.
أولا، الأسباب الكامنة التي أدت إلى الثورات في العالم العربي لا تزال موجودة. بل وتعمقت هذه الأسباب واكتسبت مزيدا من الأهمية. قبل أسبوعين، كان هناك انتقال سلمي للسلطة في واشنطن العاصمة، ولم تكن هناك دبابات في الشوارع. كان حضور أفراد الجيش فقط للأغراض الاحتفالية. تستحق شعوب هذه المنطقة نفس الشيء. وحتى يحصلوا على هذه الفرصة، فمن غير المرجح أن يستقر الوضع في المنطقة.
تتناقض هذه الصورة تناقضا صارخا مع ما حاول البعض تنفيذه في تركيا في 15 يوليو/تموز 2016. فشلت محاولة انقلاب يوليو/تموز التي قامت بها المجموعة الإرهابية “الغولنية” (منظمة فتح الله غولن الإرهابية)، والتي كانت تهدف إلى انتقال دموي للسلطة، من حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا إلى منظمة إرهابية ذات توجهات سرية. لسوء الحظ، لم تُظهر إدارة أوباما مستوى كافيا من التضامن مع تركيا في مواجهة هذه المحاولة الانقلابية الوحشية. ما نتوقعه من الإدارة الأميركية الجديدة هو إظهار التضامن مع حليفتها تركيا، بتسليم قائد الانقلاب فتح الله غولن، الذي يقيم في ولاية بنسلفانيا، إلى تركيا ليخضع للمساءلة عن أفعاله.
ثانيا، ثمة روح سياسية جديدة لها أهميتها تسود في المنطقة، وخاصة بين الشباب، وهي التي ستشكل المسارات السياسية في المستقبل. رغم كل الصدمات التي مروا بها، ترفض هذه الروح الجديدة غض الطرف عن هذا النموذج “الجديد”، والاستبداد في أبشع صوره، أو التعامل معه على أنه مصيرهم المحتوم.
ثالثا، الطبيعة المتداخلة في عالمنا اليوم تعني أن الأزمة في الشرق الأوسط لم تعد إقليمية، بل عالمية، ولها عواقب بعيدة المدى.
وكلما وافق الغرب على عودة الاستبداد إلى المنطقة، خاطر بتآكل الديمقراطية في بلاده. لا يبدو أن أوروبا تدرك أن ليس بينها وبين منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سوى حدود سائلة؛ أي البحر الأبيض المتوسط.
كما أظهرت الهجرات البشرية الكبيرة والمأساوية في السنوات الأخيرة، أن هذه الحدود السائلة يمكن عبورها، بغض النظر عن مقدار الاستثمار الذي تدفعه أوروبا في أمن الحدود والأسوار. إن المأساة الإنسانية على هذا الجانب من البحر الأبيض المتوسط، تولد كارثة سياسية في شكل ارتفاع الشعوبية السياسية وتدهور المعايير الديمقراطية في أوروبا.
باستثناء جهود القادة السياسيين مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، والذين قدنا معهم عملية في 2015-2016 أدت إلى توقيع تركيا والاتحاد الأوروبي اتفاقية اللاجئين يوم 18 مارس/آذار 2016، في قمة الاتحاد الأوروبي وتركيا، التي بدورها منعت وفاة اللاجئين في بحر إيجة، يبدو أن القيادات السياسية في أوروبا لا تدرك إلى أي مدى يترابط المصير السياسي لشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط. إنهم يميلون بالتالي إلى نسيان أن أوروبا هي شبه جزيرة بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
وعلى نفس المنوال، سيشكل مصير إحدى ضفتي المحيط الأطلسي، أوروبا، حتما مصير الضفة الأخرى، أميركا الشمالية (خاصة للولايات المتحدة). ولذلك، فإن البحث عن حلول حقيقية ومستدامة لهذه الأزمات في الشرق الأوسط يصب مباشرة في صالح النخب السياسية الأميركية والأوروبية، أو مجتمع الديمقراطيات.
خـطـر الـبـدايـة الـمـأسـاويـة والأخـطـاء الـقـاتـلـة
يُنصح هنا بالحذر الشديد. رغم أن التوقعات التي كانت لدينا حيال أوباما لم تتحقق، جاء الخطاب السياسي للرئيس ترمب قبل الانتخابات، وكذلك أداؤه وقراراته بعدها، حاملا عناصر مقلقة ومتناقضا تماما مع توقعاتنا.
أولا، بدلا من مبادئ استيعاب المُهمشين صار التفرد وإقصاء الآخرين هو السمة المميزة للقرارات الهامة لهذه الإدارة الجديدة منذ الانتخابات. إذ إن خطاب حملة ترمب حول المهاجرين والناس من مختلف الهويات، خاصة المهاجرين المكسيكيين والإسلام والمسلمين، كان ضارا أو إشكاليا على أحسن تقدير.
هذه الطبيعة الإقصائية للسياسة الداخلية في الولايات المتحدة نحو مواطنيها والمقيمين والأشخاص الذين يعيشون على الأراضي الأميركية تحدد مسارا خطيرا، وسابقة ستحذو حذوها أحزاب اليمين المتطرف في مناطق أخرى، وسوف تشوه صورة الولايات المتحدة في العالم، وتدمر أساس القوة الناعمة لديها، التي شكلت جزءا كبيرا من القوة الشاملة الولايات المتحدة ومكانتها في العالم.
ثانيا، بدلا من التعددية، عادت الأحادية غير المثمرة مرة أخرى إلى الساحة. اختارت الإدارة الجديدة الأحادية التي ستؤدي إلى نتيجة عكسية: بدءا من الحظر المفروض على مواطني سبع دول ذات غالبية مسلمة ومرورا بقرار بناء جدار على طول حدود الولايات المتحدة مع المكسيك.
بل هي مفارقة في الوقت الذي أمرت فيه الإدارة الأميركية الجديدة وزارة الدفاع بوضع خطة لتوجيه ضربة قاضية إلى داعش في العراق وسوريا، ها هي تفرض حظرا على المسلمين. لا يمكن تصور هدية أفضل لداعش من مثل هذا الحظر غير المنطقي على المسلمين.
وإنه لمن سخرية القدر أن يوقع الرئيس ترمب قرار حظر دخول المسلمين يوم ذكرى المحرقة. لا ينبغي أن يكون إحياء هذه الذكرى بوصم أي شخص أو دين أو مجتمع بشكل جماعي.
وبالمثل، كانت الفكرة وراء 11 سبتمبر/أيلول هي الوقيعة بين الناس والأديان والمجتمعات والحضارات. لقد هاجم منفذو هجمات 11 سبتمبر/أيلول أولا وقبل كل شيء قيم استيعاب المُهمشين للمجتمعات، وفكرة التعايش، وظاهرة تعدد الثقافات. إذا استمر هذا الحظر -حظر المسلمين- فسيعتبر بمثابة مكافأة لهؤلاء الجناة بهدية لم يكونوا ليتصوروها من قبل. سيكون هذا الحظر بمثابة إضفاء طابع مؤسسي على كراهية الإسلام، كسياسة حكومة دولة عظمى، مما سيؤدي هذا إلى زيادة الاستقطاب في جميع أنحاء العالم، وتعميق الشروخ الاجتماعية والسياسية بين المجتمعات والأديان والحضارات. لا ينبغي استغلال المخاوف لتحقيق مكاسب سياسية.
المبادئ الجامعة، واحترام كرامة الإنسان والتمسك بالحقوق والحريات ستكون أقوى وسائل مواجهة الأيديولوجية الملتوية لمنفذي هجمات 11 سبتمبر/أيلول وجبن داعش. أما التخلي عن هذه المبادئ والقيم، في المقابل، فسيكون بمثابة بث الروح في الأيديولوجية الميتة والمتحللة لمرتكبي هذه الجرائم.
إن إقصاء الإسلام والمسلمين سيعمق الصدع، ليس فقط بين الولايات المتحدة ومواطنيها المسلمين، ولكن أيضا بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي الكبير.
ثالثا، يجب أن ترتكز سياسة الولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط على فهم متطور للمنطقة. وفي هذا الصدد، أعلن ترمب عن نيته لنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، وفي حال تنفيذ هذا، ستكون بداية مأساوية وخطأ فادحا. وسيكون هذا ضد مصالح الولايات المتحدة، وسيسبب التوتر والصراعات الدموية شبه المؤكدة بين فلسطين وإسرائيل، وينسف أي فرصة لتحقيق حل الدولتين.
وكذلك سيشعل دورة من العنف وإراقة الدماء، ويوفر أرضية سياسية خصبة لازدهار كافة أنواع التطرف في المنطقة. فالقدس ليست مجرد مدينة؛ إنها ليست مجرد قضية متنازع عليها بين إسرائيل وفلسطين أو حتى العرب ككل، ولكن مصدرا محتملا للاحتكاك أكبر بكثير.
سيكون التأثير المشترك لهذه النقاط الثلاث مزيدا من تقلص دور الولايات المتحدة ووجودها في المنطقة والعالم. في المقابل، سيوفر هذا المزيد من الفرص للقوى الأخرى، سواء كانت روسيا أو الصين، لاستغلال الفراغ الناجم عن ضعف العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في الشرق الأوسط، وتهميش دور الولايات المتحدة في المنطقة، بل في العالم كله.
رابعا، إذا لم يتراجع ترمب عن التقليل من شأن مشروع التكامل الأوروبي والتقليل من أهمية الناتو، سوف تهتز الروابط بين جانبي الأطلسي، مما سيؤدي مرة أخرى إلى نتائج مضادة للمصالح الوطنية للولايات المتحدة. لا سيما أن ثناءه على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وتشجيع تكراره في سياقات أخرى، فضلا عن مغازلة الحركات الشعبوية في جميع أنحاء القارة، يعد تأجيجا لتحديات أمنية متنوعة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
إن الانعكاس والتراجع عن مشروع التكامل الأوروبي سيكون أحد أخطر الأخطاء منذ الحرب العالمية الثانية، وستكون عواقبه عميقة وبعيدة المدى. هذه العملية قد تؤدي إلى إحياء التساؤل القديم حول ميزان القوى في أوروبا مرة أخرى. لن يكون هذا حدثا مأساويا بالنسبة لأوروبا وحسب، بل سيكون له أثر مباشر وفوري على تقويض مكانة الولايات المتحدة عالميا. لذلك يجب على إدارة ترمب أن تسعى جاهدة إلى استعادة ثقة حلفائها التقليديين، سواء كانوا في الشرق الأوسط أو آسيا أو أوروبا، وترسيخ الروابط القائمة.
ويجب أن يحفز إرث سياسة أوباما الخارجية الباهتة الإدارة الأميركية الجديدة على استنباط سياسة جديدة، تتوجه نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن تكون سياسة خارجية صديقة للشعوب. ينبغي أن تعزز علاقاتها مع حلفائها الحاليين وتبحث عن حلفاء جدد. على العالم بأسره تحمل عبء منع مزيد من الدمار، ووقف الانجراف العالمي نحو الاستبداد.
إن احتياجات البشرية اليوم واضحة: إنها نظام دولي يميل بصورة أكبر إلى تبني القيم الجامعة، والتعددية والقيم الإنسانية.