معيب أن يغضب البرلمان لأن صحفيا انتقده، وأن يقدم ضده بلاغا إلى النائب العام. معيب أيضا أن يؤخذ البلاغ على محمل الجد، ويحال إلى النيابة العامة للتحقيق في القضية، معيب كذلك أن يحقق مع الكاتب «المتهم» طوال ست ساعات، ثم يطلق سراحه بعد دفع كفالة قيمتها عشرة آلاف جنيه. ذلك كله ليس معيبا فقط ولكنه مهين أيضا للمجلس والنيابة والصحافة، بما يشكل إساءة بالغة للنظام القائم في مصر.
كل ذلك لأن صاحبنا إبراهيم عيسى وصف مجلس النواب بأنه «كارتوني». وهي الكلمة التي اهتز لها المجلس الموقر وانفعل رئيسه الذي لم نره منفعلا لأن المجلس لم يعد له دور يذكر في الرقابة على السلطة التنفيذية التي هي إحدى وظائفه الأساسية، حتى أصبح ممثلا للسلطة وليس ممثلا للشعب.
لقد اعتبر رئيس المجلس ومؤيدوه أن كلمة «كارتوني» إهانة لكرامة المجلس، في حين أن أحدا منهم لم يغضب لكرامة المجلس حين تم تجاهله في العديد من القضايا والملفات المهمة التي تخص الشأن الداخلي والعلاقات الخارجية. والتفاصيل في هذا الصدد محزنة ومحبطة. ولمن يريد أن يستزيد فله أن يرجع إلى مقالة الدكتور زياد بهاء الدين في جريدة «الشروق» أمس 7/3 التي كان عنوانها: هل حقا لدينا برلمان؟
حين غضب المجلس لأنه وصف إعلاميا بأنه «كارتوني» ــ وذلك وصف مهذب للغاية إذا قورن بأوصافه الأخرى المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد أثبت أنه حين عطل وظيفته في مراقبة الحكومة، فإنه أراد أن يكون رقيبا على الإعلام. وبدل أن يكون منبرا لحرية التعبير، فإنه لم يكتف بمصادرة تلك الحرية، ولكنه أراد أيضا إرهاب الإعلاميين وإسكاتهم، لكي لا يوجهوا أي نقد لأداء المجلس. وفي حين توقعنا أن يحفظ النائب العام البلاغ احتراما لحرية التعبير فإنه أحال الكاتب للتحقيق في انحياز ضمني إلى جانب عملية إرهاب الإعلاميين وتخويفهم. أما وكيل النيابة الذي لم يسمع بما فعله نظيره الذي برأ طه حسين في عشرينيات القرن الماضي وقرر الإفراج عن الكاتب بكفالة فإنه تضامن مع حملة الإرهاب. ذلك أن الكفالة في العرف القانوني هي إجراء تحفظي بديل عن الحبس الاحتياطي يتم اللجوء إليه حتى يحين موعد المحاكمة، ولكي يبقى سيفا مسلطا على رقبة المتهم يمكن به تحريك «القضية» في أي وقت.
لا أستطيع أن أفصل ما جرى عن اتجاه الريح السياسية لدى بعض أطراف السلطة التي ترى في كل نقد إهانة، وتعتبر أن ذلك النقد يصبح إيجابيا وبناء إذا انطلق من التأييد المطلق ومارس «حريته» في المديح والتصفيق.
قبل أن تتحول المسألة إلى قضية، أجرى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (الابن وليس الأب) حوارا تلفزيونيا (يوم 27 فبراير) مع قناة «إن. بي. سي»، سأله خلاله المذيع عن رأيه في الانتقادات الحادة التي وجهت إليه إبان حكمه فكان رده درسا بليغا ذكر فيه ما يلي: الإعلام الحر لا غنى عنه في أي مجتمع ديمقراطي، لأن السلطة تعطي إحساسا بالاستعلاء والقوة، وتتحول إلى إدمان بمضي الوقت. ووحده الإعلام الذي يتولى تقويم مسارها ومحاسبتها وكشف أخطائها بصفة يومية أمام الرأي العام، وذلك دور بالغ الأهمية.
هذا الدور يقوم به الآن الإعلاميون والمثقفون والفنانون في مواجهة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وانتقادات هؤلاء للرجل ينقلها التليفزيون وتنشرها الصحف بصفة يومية. وهي تستفز الرئيس ترامب بطبيعة الحال. وكل ما فعله أنه صار يرد على ناقديه بتغريداته، كما أنه هاجم الإعلاميين واعتبرهم «أعداء» ومنع بعضهم من حضور مؤتمراته الصحفية. وهذا الأسبوع سبه أحد الإعلاميين المخضرمين (دافيد ليترمان)، ووصفه بأنه «غبي وابن كلب» (Stupid son of a bitch) ــ ولم يعتبر الرئيس الأمريكي ذلك إهانة له (ربما لأن ليترمان وقف عند حده ولم يجرؤ على وصفه بأنه رئيس كارتوني!).
إن تجريح السياسي والطعن في مواقفه وأدائه ليس حقا لأهل الرأي فقط، ولكنه واجب أيضا في المجتمعات التي تحترم حرية التعبير.