التطورات المتسارعة للأزمة التركية الأوربية التي بدأت برفض ألمانيا وهولندا لاستقبال وزراء أتراك بينهم وزير الخارجية للمشاركة في فعاليات للجاليات التركية حول التعديلات الدستورية المقررة منتصف أبريل نيسان المقبل كشفت الوجه القبيح لأوربا ومعاداتها لأي تطور ديمقراطي حقيقي في بلداننا الإسلامية، فها هي دول اوربية يفترض أنها عريقة في الممارسة الديمقراطية، ويفترض أنها تصدر القيم الديمقراطية، أو هكذا صورت نفسها أمامنا لعقود طويلة، لا تستطيع إخفاء رغبتها في الإنتقام من الديمقراطية التركية بعد أن أفشلت الحكومة التركية المحاولة الإنقلابية المدعومة غربيا منتصف يوليو تموزالماضي، وقد سعت الدول الغربية لإحداث هزة اقتصادية في تركيا خلال الشهور الماضية من خلال عملية سحب منظمة لمليارات الدولارات وهو ما ظهر قويا في تراجع حاد لقيمة العملة التركية( الليرة) لكن تلك الهزة لم تفلح في تحقيق غرضها وهو إسقاط النظام الذي تحرك سريعا لتعويض ذلك النقص من خلال جذب استثمارات خليجية عاجلة وكبيرة (سعودية وقطرية بالأساس)، وها هي أوربا تتحرك مجددا للمرة الثالثة خلال عام واحد لإسقاط الحكم التركي عبر التأثير على نتائج استفتاء الدستور المقرر منتصف أبريل المقبل، حيث رفضت تلك الدول الأوربية السماح بعقد لقاءات لوزراء أو مسؤولبين حكوميين داعمين للتعديلات في حين سمحت بفعاليات لرافضي تلك التعديلات، وتعتقد أوروبا أن التصويت ضد الدستور سيمثل نهاية لحكم اردوغان، ذلك أنه لو جاءت النتيجة بالرفض فإن أحزاب المعارضة ومن خلفها الدول الأوربية ستدعو لانتخابات نيابية جديدة مبكرة، وستدعو لاحقا لطرح الثقة في الرئيس مستغلة تراجع شعبيتة وحزبه الحاكم ( العدالة والتنمية)، وبالتالي تتصور أوربا أنها يمكنها التخلص من أردوغان عبر إنقلاب ديمقراطي بعد ان أفشل أردوغان إنقلابها العسكري.
لعل الدرس الأول الذي أبرزته هذه الأزمة هو ذلك النفاق الأوربي تجاه قضية الديمقراطية، فأوربا التي خصصت ملايين اليوروات لدعم برامج الديمقراطية في العالم الإسلامي وفي أفريقيا وآسيا، وأوربا التي تسلط مؤسساتها البرلمانية والحقوقية ضد بعض الأنظمة الحاكمة في عالمنا العربي والإسلامي لا تفعل ذلك تقديسا لديمقراطية تؤمن بها حقا، ولا لحرية تسعى لنشرها فعلا، ولكنها مجرد أدوات ضغط جديدة تستخدمها عند اللزوم لمصالحها كما تستخدم عكسها تماما إذا اقتضت مصالحها ذلك، وهذا ما نشهده اليوم في تركيا وقد شهدناه في دعمها الكبير لإنقلاب عبد الفتاح السيسي على الديمقراطية في مصر، وقد شاهد العالم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل قبل أيام في زيارة حميمية لجنرال مصر المنقلب على الديمقراطية بينما هي ذاتها التي تزعمت مواجهة الحكم الديمقراطي في تركيا، وبالتالي لا يمكننا أن نصدق أن الدول الأوربية راغبة حقا في مساعدة أي تطور ديمقراطي في مصر او في أي دولة أخرى، وبالتالي فمن العبث أن تفكر بعض القوى الليبرالية واليسارية في مصر بحسن نية في خوض الانتخابات الرئاسية في 2018 في مواجهة عبد الفتاح السيسي متوقعة دعما غربيا لفرض نزاهة للإنتخابات بضمانات دولية، وهو مالن يحدث البتة.
الدرس الثاني من الأزمة هو الرد التركي الحاسم من قيادة واثقة من نفسها، ومن شعبها، فهذا الرد التركي أربك الأوربيين الذين توقعوا أن تمر تصرفاتهم دون رد، ففي مقابل منع الوزير جاويش اوغلو والوزيرة فاطمة البتول من دخول هولندا كان القرار التركي بمنع هبوط أي طيران هولندي، ومنع عودة السفير الهولندي وإغلاق ومحاصرة السفارة، وكان الرد بتذكير ألمانيا وهولندا تحديدا بماضيهما النازي الذي ظهر في تصرفاتهما الأخيرة، وهذا الموقف الحاسم من أعلى هرم السلطة في تركيا واكبه رد فعل شعبي غاضب تمثل في مظاهرات شعبية رافضة للتدخل الأوربي في الشأن التركي الداخلي وهو الإستفتاء، كما واكبه موقف واع من المعارضة العلمانية الرافضة للتعديلات الدستورية والتي رفضت هذا التدخل الأوربي الذي جرى لصالحها، وهذا يقدم درسا تركيا في احترام الديمقراطية يجعل هذه الديمقراطية هي الجديرة بالتصدير لاحقا وليس تلك الأوربية المنافقة.
الدرس الثالث هو أن التصرفات الأوربية الحمقاء تجاه تركيا جاءت تجاوبا مع صعود اليمين المتطرف في أوربا، فتلك الدول تعيش حاليا استعدادات لانتخابات برلمانية تشهد تصاعدا للمد اليميني المتطرف، وحتى الأحزاب الوسطية تغازل الصوت اليميني بعدائها لتركيا، وهذا ينسحب وسينسحب على مواقف أوربا من كثير من قضايا المنطقة العربية والإسلامية سواء القضية الفلسطينية او السورية أو اليمنية او الليبية أو المصرية، أو السودانية، وهذا يستوجب تحركات عربية إسلامية لمواجهة هذه الموجة المتطرفة، سواء عبر تحركات للجاليات المسلمة في تلك الدول بالتعاون مع جاليات وفئات أخرى سيطالها أذى اليمين المتطرف، أو عبر تمتين التعاون العربي والإسلامي المشترك لمواجهة تلك الهجمة التي لن تقتصر على مواجهة تركيا وأي تجربة ديمقراطية وليدة بل إنها ستطال حتى الأنظمة الشمولية العربية من ملكية أو جمهورية، كما فعلت من قبل مع عبد الناصر وصدام حسين.
كنا من قبل نقول “المتغطي بالأمريكان عريان” في إشارة لتخليهم عن أقرب حلفائهم في المنطقة عندما تقتضي مصلحتهم ذلك، واليوم يتسع هذا المثل ليشمل الأوربيين أيضا الذين يتنكرون جهارا نهارا لقيمهم الديمقراطية التي لطالما صدعوا رؤوسنا بها من قبل، والتي لن نصدقهم فيها من بعد.